الاتجار بالبشر جرائم بلا عقاب

حسين خليفة:

يعود تاريخ الاتجار بالبشر إلى عصر العبودية، فقد كان العبيد يعاملون كأي سلعة تُباع وتُشترى، وكانت تجارة الرقيق سائدة أيام الامبراطورية الرومانية، وعلى أكتاف هؤلاء العبيد أُقيمت الأوابد والقصور، واستثمرت الأنهار واستُصلحت الأراضي.

في القرن الخامس عشر الميلادي كان الأوربيون يمارسون تجارة العبيد الأفارقة ويجري (شحنهم) إلى العالم الجديد ليؤسّسوا الأرض والعمران من أجل الغزاة البيض.

ولم تتوقف تجارة العبيد (الشرعية) حتى عام 1865 حين نص الدستور الامريكي على إلغاء العبودية، وجاء بعده بعقود المؤتمر الدولي لإلغاء العبودية الذي نظمته عصبة الأمم عام 1906 الذي قرر بشكل واضح وقاطع منع تجارة العبيد وإلغاء العبودية بأشكالها كافة.

أما في الشرق الإسلامي فكانت العبودية امتداداً لتقاليد مستمرة منذ آلاف السنين، إذ تؤكد الدراسات التاريخية أن (تاريخ الاسترقاق في بلاد ما بين النهرين يعود إلى حوالي 10 آلاف سنة، وكانت قيمة العبد الذكر بُستان نخيل التمر، كما كانت تستخدم النساء من العبيد في تلبية المطالب الجنسية للأسياد، وكان هؤلاء العبيد يكتسبون حريتهم فقط عندما يموت سيدهم).

واستمرت العبودية وتجارة البشر بشكل شرعي ضمن الدول الإسلامية المتعاقبة رغم محاولة الإسلام تخفيف الظاهرة عبر ربط التكفير عن الذنوب بتحرير الرقاب (الأرقاء)، فكان الرق والاتجار بالبشر وامتلاك الجواري والقيان والعبيد من سمات الخلافة الإسلامية بكل مراحلها حتى نهاية الدولة العثمانية كآخر دولة خلافة، وقيام الدولة التركية العلمانية على أنقاضها، فألغي الرق عام 1924 وأُقر الدستور التركي الجديد حلّ الحريم السلطاني ومنع الجواري.

أما في إيران الصفوية فقد ألغي الرق عام 1929، فيما بقيت السعودية واليمن تسمح بالاسترقاق والمتاجرة بالرقيق حتى عام 1962، وكان آخر الدول العربية التي ألغت الرق سلطنة عمان عام 1970 تحت ضغوط بريطانية.

لكن بقيت أشكال من الرق موجودة في بعض البلدان الإسلامية في الساحل الإفريقي حتى فترات متأخرة من القرن الماضي، ولم تلبث أن أعيدت تجارة الرقيق إلى بعض المناطق التي سيطرت عليها المجموعات الإسلامية المُتشدّدة في سورية والعراق والصومال وليبيا وغيرها في القرن الحادي والعشرين خلال الاضطرابات السياسية وثورات الربيع العربي.

في العصر الحديث تتخذ العبودية الحديثة أشكالاً عديدة، من أهمها وأخطرها ظاهرة الاتجار بالبشر وهي تعني استخدام العنف أو التهديد أو الإكراه لنقل أو تجنيد أو إيواء الأشخاص من أجل استغلالهم لأغراض مثل الدعارة القسرية أو العمل أو الإجرام أو الزواج أو المتاجرة بالأعضاء.

وقد شكّلت الحروب الأهلية والاضطرابات السياسية والاجتماعية تربة خصبة لنمو ظاهرة الاتجار بالبشر في بلدان عدّة منها السودان والنيجر والكونغو وساحل العاج وليبيا وسورية والعراق وغيرها.

وقدّرت منظمات دولية معنية عدد عمليات الاختطاف خلال الحرب الأهلية السودانية الأخيرة على إقليم دارفور عام 2003 (قبل الحرب الجارية حالياً بين العسكر والتي تحرق البلاد الآن) بأنها تتراوح بين 14000 و 200000 شخص، وقد كانت ميليشيات الجنجويد (وهم أنفسهم قوات الدعم السريع المشاركة حالياً في الحرب ضد الجيش السوداني) هي الجهة الرئيسية المتهمة بعمليات الاختطاف وبيع الضحايا كرقيق وعمال زراعيين وخدم في المنازل وعبيد جنس.

ثم جاءت الحرب السورية، ودخول تنظيمات إسلامية متطرفة فيها، خصوصاً تنظيمي داعش وجبهة النصرة (سميت هيئة تحرير الشام لاحقاً)، هذه التنظيمات (ويرجّح أنها كانت تنفذ تعليمات الجهات المؤسسة والمشغلة لهم لشيطنة الحراك الشعبي المطالب بالديمقراطية والحكم المدني)، قامت تحت لافتة حكم الشريعة الإسلامية باستعادة ممارسات تنتمي إلى العصور الأولى من عمر الدولة الإسلامية، التي تجاوزها الزمن، مثل السبي والغنائم وبالتالي أعادت تجارة الرقيق إلى مناطق سيطرتها التي امتدت في فترة صعودها من الموصل في العراق إلى شمالي حلب مروراً بالرقة ودير الزور وغيرها.

وقامت داعش ببيع النساء اليزيديات والمسيحيات كإماء في أسواق علنية بعد سيطرة التنظيم على مناطق سكناهم في ظاهرة يندى لها جبين التاريخ.

وقدرت تقارير للأمم المتحدة عدد النساء والأطفال من الطائفة اليزيدية الذين تم اختطافهم والمتاجرة بهم من قبل التنظيم الإرهابي خلال عام 2014 وحده بين 5000 و7000 امرأة وطفل جرى بيعهم في المجلة الرقمية (دابق).

وقد تمّت تغطية هذه الممارسات بتبرير ديني يدّعي بأن اليزيديين هم عبدة أوثان وهراطقة، وإن استعبادهم وسبي نسائهم هو ممارسة شرعية قديمة مع غنائم الحرب.

وقد امتلأت وسائل الإعلام وصفحات التواصل بإعلان داعش إحياء عصر العبودية كإحدى علائم قيام الساعة كما يردّد بعض رواة الأحاديث المُلفقة، مع إعلانها الوقح عن أسعار بيع المخطوفين، فكان الأطفال حتى تسع سنوات يُباعون مقابل 170 دولاراً أمريكياً، بينما النساء والأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين العاشرة والعشرين عاماً بمئة وثلاثين دولاراً أمريكياً. بينما تُباع النساء اللاتي أعمارهن بين 20 و30 عاماً بنحو 85 دولاراً.

وهكذا تبدأ الأسعار بالنزول مع ارتفاع أعمار السبايا المعروضات للبيع والامتهان كرقيق أبيض.

لكن بعض مقاتلي التنظيم الإرهابي كانوا يبيعون بعض المخطوفات مقابل بضع علب سجائر، وكانت أسواق صرف السبايا في تركيا ودول الخليج إضافة إلى مناطق سيطرة التنظيم في سورية والعراق.

الاتجار بالبشر ممارسة لا إنسانية فظيعة تنتمي إلى عصور التوحش والهمجية لم يقتصر على تنظيم داعش الذي كان يفعلها علانية بل يتفاخر بها كتنفيذ لنصوص منسوبة إلى الفقه الإسلامي، لكنها امتدت إلى جميع الميليشيات والقوى المسلحة على طرفي الصراع، لكن دون الاعتراف بها أو الإعلان عنها. وأصبحت قصص تهريب البشر بحجّة إيصالهم إلى بلدان اللجوء أو الهجرة إلى أوربا، والتنسيق بين الميليشيات المسلحة بكل أشكالها وألوانها وعصابات تهريب البشر والمتاجرة بهم وبالأعضاء البشرية على كل لسان.

وما يؤلم أكثر أنه لم يسبق أن حوكم أحد من رؤوس هذه الميليشيات من قبل أي طرف سواء من الحكومات أو من المحاكم الدولية المختصة، لأنهم ما زالوا يتمتعون بالحماية والتبجيل من قبل الأنظمة والقوى التي رعتهم ودعمتهم لتحقيق أهدافها الخاصة.

هل سيأتي يوم نرى هؤلاء أو بعضهم على الأقل في أقفاص العدالة؟!

العدد 1104 - 24/4/2024