الحرب والعقوبات والسياسات الحكومية تشريعات للاتجار بالسوريين

إيمان أحمد ونوس:

الاتجار بالبشر يعني جميع الممارسات اللاإنسانية من قبل البشر تجاه بعضهم، والتي اتخذت في سالف الزمان تسميات تناسب لغة عصرها: (الرق، العبودية، القنانة، السخرة، النخاسة، الجواري) تسميات يتجلّى في حروفها كل معاني الإذلال والمهانة. وقد عرفت غالبية المجتمعات القديمة (الرومان، اليونان، العرب، الفراعنة.. الخ) نوعاً أو أكثر من هذه الأنواع، فكان العبيد يشكّلون إحدى أهم طبقات المجتمع في تلك الإمبراطوريات.

واليوم، بات الاتجار بالبشر مفهوماً وممارسةً معروفاً لدى غالبية الناس، غير أنه ومن خلال واقع عالمنا المعاصر الذي يشهد المزيد من الصراعات والحروب والكوارث على امتداد الكرة الأرضية بمختلف قاراتها وشعوبها، فقد تنوّعت وسائل وأساليب الاتجار بالبشر سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات أو الحكومات، وأصبحت التسميات أكثر حداثة تتستّر خلفها ممارسات ربما أكثر وحشية، فتُصبح (النخاسة) تجارة رقيق أبيض مثلاً. والحداثة ذاتها دعت الدول الكبرى بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية لوضع لائحة بحقوق البشر، عُرفت بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي انبثقت عنه عدّة قرارات واتفاقيات ذات صلة بالحقوق منها القرار 192/68 لعام 2010 واعتبار 30 تموز من كل عام يوماً عالمياً لمناهضة الاتجار بالأشخاص، تجري فيه الإضاءة على الكم الكبير من أنواع الاتجار بالبشر (لاسيما في ظلّ الكوارث والحروب) بهدف التوعية بمعاناة الضحايا وتعزيز حقوقهم وحمايتها. وللعلم فقد أضيف (تهريب المهاجرين) ضمن قائمة الاتجار بالبشر بعد انعقاد قمة الأمم المتحدة للاجئين والمهاجرين التي خرجت بإعلان نيويورك الذي تُعرّف الفقرة (أ) من مادته الثالثة الاتجار بالأشخاص بأشكاله المختلفة، والتي من ضمنها تجنيد الأشخاص أو نقلهم وتحويلهم أو إيوائهم بدافع الاستغلال أو حجزهم عن طريق التهديد أو استخدام القوة أو أيٍّ من أشكال القسر أو الاختطاف أو الاحتيال أو الخداع أو الابتزاز أو إساءة استخدام السلطة أو استغلال مواقف الضعف أو إعطاء مبالغ مالية أو مزايا بدافع السيطرة على شخص آخر لغرض الاستغلال.

وفي أيلول من عام 2015، اعتمد العالم جدول أعمال التنمية المستدامة (2030) بأهداف وغايات تتعلّق بالاتجار بالأشخاص، تدعو إلى وضع حدّ للاتجار بالأطفال وممارسة العنف ضدّهم، وكذلك السعي إلى إنهاء كل أشكال العنف ضدّ المرأة والفتاة واستغلالهما.

في سورية، تمّ التنبّه لمثل هذه الجرائم في عام 2010 فصدر المرسوم رقم 3 الخاص بمنع جرائم الاتجار بالأشخاص تماشياً مع قرار الأمم المتحدة آنف الذكر. لكن الحرب التي اشتعلت في سورية بعد ذلك، قد شرّعت الأبواب كلها أمام مختلف أنواع الاتجار بالبشر دون حسيب أو رقيب في الداخل والخارج، ومعلومٌ تماماً أن هناك عصابات مُنظّمة ودولية للاتجار بالبشر مثلما هناك عصابات ومنظمات محلية لا تقلُّ شأناً في هذا المجال من حيث اتخاذها للأوضاع الاقتصادية والسياسية والأمنية مناخاً مناسباً لممارسة تجارتها القائمة على آلام الناس وأوجاعهم ومصائبهم سواء خلال الحروب والكوارث الطبيعية أو خلال النزاعات والصراعات المحلية. فتلك الظروف مجتمعة لا شكّ أنها خلّفت وتُخلّف واقعاً معيشياً وأمنياً قاسياً بالنسبة لغالبية أفراد المجتمع، لاسيما الشرائح الدنيا التي لا تتمتّع لا بإمكانات مادية ولا معرفية تؤهلها للابتعاد قدر الإمكان عن الوقوع في فخاخ عصابات الاتجار بالبشر، خاصة المحلية منها. فكانت النساء والأطفال أكثر الضحايا تضرراً من هذه التجارة غير المشروعة خلال وما بعد تلك الحرب التي هيّأت المناخ الملائم لحضورها القوي، خاصّة في ظلّ تدهور أوضاع الناس المعيشية بسبب الأزمات الاقتصادية والمالية المحلية والعالمية، يُضاف إليها بكل تأكيد السياسات الحكومية المُتّبعة والتي لا تُراعي مختلف تلك الظروف، ولا تضع خططاً وبرامج تستهدف الشرائح الدنيا وبضمنهم ذوو الدخل المحدود في المجتمع، بل تسعى لإرضاء كبار التُجّار والصناعيين عبر تسهيلات لا تُضاهى، ورفع الدعم عن أساسيات المعيشة مُترافقاً مع عدم مراقبة الأسواق والأسعار التي ترتفع بشكل جنوني بين الحين والآخر سواء من قبل التُجّار أو من الحكومة نفسها، يُضاف إلى ذلك الرسوم والضرائب المفروضة على صغار المُكلّفين من العاملين بأجر وذوي الدخل المحدود من العاملين في الدولة أو القطاع الخاص بدل أن يكون هناك تناسبٌ ما بين الضرائب المفروضة والأرباح التي يجنيها كبار التُجّار والصناعيين وأمثالهم في قطاعات أخرى لتُساهم في التخفيف من أعباء الفقراء، فنجد أن الحكومة قلبت الموازين لصالح الكبار ولم ترَ في الصغار إلاّ مصدراً أساسياً لجني الضرائب والرسوم التي ترفد خزينة الدولة عبر العديد من الإجراءات المختلفة.

بالتأكيد إن هذا الواقع برمّته إضافة إلى السياسات والإجراءات الحكومية مُجتمعة، كلها عوامل ساهمت بشكل كبير وأساس في تنشيط مختلف أشكال الاتجار بالبشر، مثلما دفعت لتنشيط تجارة الأعضاء البشرية، فأقبل ولا زال يُقبل العديد من السوريين اليوم على بيع بعضٍ من أعضاء جسمه كي يحصل على مبلغ ما يُعينه في تأمين أبسط احتياجاته الأساسية، أو لتساعده في الهروب من جحيم لا يُطاق بعدما ازدهرت تجارة الجنس والدعارة لدى الجنسين للأسباب ذاتها، وهنا لا يُمكننا شطب زواج القاصرات من تلك اللائحة باعتباره وسيلة لتخلّص الأهل من أعباء إعالة الطفلات أو تعليمهن، مثلما يندرج أيضاً تسرّب الأطفال من مدارسهم وتسوّلهم أو دخولهم معترك الأعمال الشّاقة التي لا تناسب أعمارهم وبنيتهم الجسدية والنفسية، وبالتالي يُمكننا إدراج كل هذا تحت أسباب مُستترة للاتجار بالبشر بدفع من السياسات الحكومية التي لا يمكن أن نراها سوى اتجار آخر بالسوريين القابضين اليوم على جمر حياة لم تعد تليق حتى بالحيوانات، فقط لأجل مصالح جهات وفئات نمت وترعرعت على حساب الدم والجوع والقهر السوري المقيم منذ أكثر من عقد من الزمن!

إن هذا الواقع يُعزّز ما أكّدته المُقرّرة الخاصة للأمم المتحدة للإتجار ماريا جيامارينارو حين قالت: (هناك مصالح اقتصادية هائلة وراء الاستغلال، وهذا هو أحد الأسباب التي تجعل من الصعب جداً الحصول على نتائج جيدة في العمل على مكافحة الاتجار بالبشر، لأن هذا الاستغلال يتمُّ التسامح به بشكل كبير).

العدد 1104 - 24/4/2024