مرة جديدة عن الثقافة والمثقفين

يونس صالح:

من بين المشاهد المثيرة التي تفرضها علينا اليوم تحولات العصر مشهدٌ مهيب لقرن- أي لجيل- من الناس يدخل في النفق، ولا يعلم أحد ما إن كان سيقدّر له اجتيازه، أم أنه سيُعتبر بعد حين في عداد المفقودين أو المنقرضين، ذلك هو جيل حمَلَة الثقافة. وقد مضى حينٌ من الدهر كان هذا الجيل فيه محطّ الأنظار ومعقد الآمال، لكن الأمور الآن لم تعد مثلما كانت عليه في العقود السابقة، والثقافة التي كان هؤلاء المثقفون يبثونها، قد طالها، وطال أصحابها، ما يؤذن بانتهاء الأمور إلى ما لا تُحمد عقباه.

بيد أن قصد الحق يوجب أن نقرّ ابتداء إلى عدم الذهاب إلى حدود الزعم أنه لا جدوى من المثقفين، وأن علينا أن نصنع بهم ما أراد أفلاطون أن يصنعه بالشعراء، فالحقيقة هي أن العلاقة الفارقة التي تجعل من مجتمع ما مجتمعاً (مدنياً) أو (متمدناً) تتمثل في مدى غزو (الوعي) لهذا المجتمع وانتشاره فيه.. والوعي نتيجة للثقافة والخبرة، في حل الفعل البشري، وهو فعل بانٍ، وذلك بشرط صريح وجلي بصورة قاطعة هو أن يكون هذا الفعل متوخياً للنزاهة، والصدق، والحقيقة حتى حين يكون ذا دلالات ومقاصد أيديولوجية بيّنة، أما وظيفة المثقف الفاعل على مستوى الوعي فتحددها المرحلة الوضعية التاريخية التي يتجاوزها المجتمع، وتحكمها الحاجات الأساسية التي تفرضها هذه المرحلة. وبقدر ما يستطيع المثقفون تبيّن وظيفتهم الحقيقية في هذه المرحلة أو تلك، وبقدر ما يكونون أمناء على هذه الوظيفة، وبقدر ما يحالفهم التوفيق في الإدراك، وفي الرؤية، وفي اختيار الوسائل والأدوات الناجعة في إنفاذ مهماتهم، وفي تحديد هذه المهمات، ورعايتها، وصونها، فإنهم يكونون جديرين بصنعتهم، ومستحقين لاعتراف المجتمع بهم، وإقراره بالحاجة إليهم، ويدخل في هذا كله أنه ليس من مهمة المثقف صانع الوعي وحارسه وراعيه، أن يتحول بالضرورة إلى (مناضل حزبي)، أو إلى (مثقف جماعي) حسب تعبير غرامشي، فذلك مما يضعف من بصيرته ومن قدرته على النظر الحصيف، وعلى الرؤية الشاملة الواضحة خارج الإطار الضيق المغلق للحزب، وإن كان من الطبيعي تماماً أنه قد يبدي شكلاً من أشكال العطف أو التعاطف أو الميل أو الانتصار لهذا التيار أو ذاك من تيارات العمل الاجتماعي أو السياسي التي تتلاطم وتتفاعل في أحشاء المجتمع وثناياه.. لكن الحقيقة هي أن ماهية المثقف تكمن في رسالته النوعية التي بها ينفرد أصلاً، وبفضلها فقط يكون ما هو عليه، أي مثقفاً، أعني إنتاج الوعي في المجتمع في شروط نزيهة تجنبه مخاطر الوقوع ضحية ابتسار الأحكام المجافية للسداد مما يمكن أن تؤدي من المواقف والرؤى الحزبية الاختزالية.

ليس بالأمر المبتدع أن نلاحظ أن نجوم المثقفين عندنا قد ارتبط ارتباطاً وثيقاً بصدمة الالتقاء بالغرب، وبوعي للذات متجه إلى ردم الهوة التي باعدت بين عالمنا والتمدن الغربي، وإلى طلب إدراك هذا التمدن الحائز على المعرفة والتقنية والقوة والسلطة.

ومع أن سبل مثقفي القرن التاسع عشر قد تباينت بأقدار متفاوتة إلا أن التحالف الذي دعوا بمعظمهم إلى عقده بين رجال السياسة وعلماء الدين كان علامة فارقة في هذه الطريق، والتعديل الجوهري الذي أفضت إليه جملة التطورات في الأجيال التالية لجيلهم، تمثل في أن (العلماء الدنيويين) أي (المثقفين المحدثين) قد تقدموا الصفوف ليحتلوا، إلى جانب العلماء الدينيين، مكاناً مرموقاً في الشبكة الثقافية والاجتماعية، وليمهدوا لصوغ علاقات جديدة ليست قائمة بالضرورة على هذا التحالف.. لكن الجموع تقريباً: أهل الدين الجدد- اتباعيين وابتداعيين- والمثقفين الدنيويين، وأهل السياسة بالطبيعة والطبع، اتفقوا على أن يتصل الثقافي بالسياسي، وكان معنى ذلك- ولايزال- أن الدولة هي قطب الرحى في المسألة وفي المشكل.. وهكذا علق المثقفون أبصارهم وآمالهم بالدولة، وذهبوا إلى أن كل شيء ينبغي أن يمر بها.. وحين أخفقت المشاريع الكبرى أخفق معها مثقفوها.. وفي هذا السياق تعرض علينا الأدبيات الثقافية المعاصرة نماذج عدة لمثقفنا، بيد أن المثقف الاتباعي التقليدي والمثقف الحداثي يقدمان الخطابين الرئيسيين اللذين يوجهان في طريقين متقابلين متباعدين حركة الثقافة المعاصرة عندنا.. وتشاء المفارقة العجيبة عندنا أن يمثل كل من هذه الخطابين نمطاً (ميتاً – تاريخياً) صارخاً، ذلك أن كليهما يقفان خارج دائرة التاريخ الحي المباشر، فالمثقف الاتباعي التقليدي يغض الطرف عن الحاضر، إنه يقفز فوقه ويذهب إلى حقل انسحب من الوجود الواقعي، وهو إذ يأبى الاعتراف بأية (شرعية) للمعطى الزماني الراهن يصبح في حالة (اغتراب) عن الواقع المباشر، فيخسر المخزون المعرفي الحضاري لهذا الواقع، ويجهز بيديه على أسباب نمائه ودواعي قوته. أما المثقف الحداثي الذي جعل البعض من الليبرالية أداته المدافعة وسر تطوره وارتقائه، ففي كثير من الحالات يقطع الروابط مع تاريخ مجتمعه، ويتوهم أنه يستطيع أن يبني أو أن يعيد البناء دون الاعتراف بالمخزون التاريخي أو الحضاري لهذا المجتمع، بل إنه يقطع بأن منطق الحداثة يمكن أن يتحقق بضربة مباشرة خارج الامتداد التاريخي. لا فرق بين الاتباعي والحداثي، فالأول يقع في الاغتراب، ويتمثل الثاني القطيعة، ولا يصل أي منهما إلى نتيجة، والمشهد ماثل أمامنا منذ أكثر من قرن، تقابل مرير لا يرحم بين قوى الطرفين، واللغة سلاحهما. نقرأ الاتباعي التقليدي ونستمع إليه فنغيب عن الوجود، ونقرأ الحداثي أو نستمع إليه فلا نفهم شيئاً.

لا سبيل بالطبع إلى إنكار وجوه الشجاعة والإقدام اللذين ميزا عدداً من الأعمال الثقافية التي أنتجها مثقفون مرموقون خلال القرن الماضي وبداية هذا القرن، إلا أن خطابهم الثقافي لم يواجه بمعظمه المسائل السياسية الجوهرية مواجهة مباشرة، وإنما سعى دوماً إلى الدوران حولها، وإلى التحايل على الدقيق منها.

أخيراً، وليس آخراً، إذا كان النظر في واقع المثقفين يكشف في الجملة عن هذه الأحوال والعوارض الذاتية التي لا تبعث على السرور كثيراً، فما الذي نستطيع أن نرجوه منهم؟ ها هنا يصبح (المثقف) الذي ينشط على مستوى الوعي، ورعاية العقل ذا فائدة وجدوى، وها هنا أيضاً يكون من الواجب العودة إلى التمايز التقليدي بين المثقف (الحقيقي) والمثقف (المزيَّف) و(المزيِّف)، مع التنبيه إلى شروط المثقف الحقيقي، وإلى ما يجدر به على وجه الإجمال أن يتحرر منه، قبل أن يشرع في المهمة الجليلة التي تدعوه إليها معطيات الواقع الاجتماعي والتاريخ المباشرة.

العدد 1105 - 01/5/2024