شبح

د. أحمد ديركي:

ما زال البيان الشيوعي يمثل أحد أبرز المرتكزات الفكرية للأحزاب الشيوعية، التي ما زالت تعتمد على الفكر الماركسي – اللينيني، وأما تلك الأحزاب التي تخلت عن هذه المبادىء فهذا شأنها (الديمقراطي).

بيان يلخص فيه كل من ماركس وإنجلس، رغم أن معظم البيان قد صاغه ماركس، العديد من الأفكار الممثلة لنقاط انطلاق متنوعة يمكن العمل عليها. أفكار وضعت الحجر الأساس للانتقال من واقع إلى واقع آخر مخالف. بمعنى أن البيان الشيوعي مثّل نقطة قطيعة بين ماركس الهيغلي وماركس (الماركسي). وكان كل من ماركس وإنجلس قد عملا على تأسيس هذه القطيعة في كتابهما (الإيديولوجيا الألمانية). من هنا يمكن القول إن من لم يقرأ (الإيديولوجيا الألمانية) يستحيل عليه فهم البيان الشيوعي. ومن لم يفهم البيان الشيوعي يستحيل عليه فهم النقلة الفكرية التي قام بها كل من ماركس وإنجلس لتأسيس منهج فكري جديد مغاير عما كان سائداً.

ما دام الحديث حول تأسيس منهج فكري مغاير عما كان سائداً، وفي الوقت عينه، عما تحاول الطبقة البرجوازية أن تثبته بكل الوسائل، فهذا يعني بداية أنه لا بد من الخروج من قدسية القراءة. أي إنه يستحيل قراءة البيان الشيوعي بواسطة فكر يحمل في طياته بذور عشق الفكر القدسي، أو الفكر البرجوازي.

صحيح أنه يصعب التخلص من كل هذا الموروث الثقافي، المكرّس من قبل الطبقة البرجوازية، المتعلق ببذور عشق الفكر القدسي والبرجوازي، ولكن الأمر ليس بمستحيل. فمع كل نضوج عمري، ووعي طبقي غير مشوّه، يمكن إعادة قراءة البيان الشيوعي، وما سبقه، ولن نقول ما لحقه من كتابات لماركس وإنجلس كي لا نزيد الأمر تعقيداً، لاكتشاف ما هو جديد (البيان الشيوعي).

وقد تكون أولى هذه الأمور مسألة الجملة الأولى في (البيان الشيوعي).  وهنا محاولة قراءة قابلة للنقد لمن يريد.

يستهل ماركس وإنجلس (البيان الشيوعي) بعبارة: (شبحٌ ينتاب أوربا – شبح الشيوعية). فمن المشروع طرح السؤال التالي: ماركس وإنجلس مادّيان لا يؤمنان بالأفكار الغيبية فكيف يستخدمان عبارة شبح؟ فالشبح (مخلوق) لا إنساني ينتمي إلى عالم الأرواح. وعالم الأرواح ينتمي إلى الفكر الغيبي!

نعم، الشبح ينتمي إلى عالم الأفكار الغيبية، لكن ماركس وإنجلس استخدما كلمة شبح كمفهوم وليس بالمعنى الحرفي للكلمة. فالشبح المستخدم هنا وفقاً لما ورد في اللغة الإنكليزية (spectre)، وليس (ghost). وكلمة (spectre) تعني روح شخص ميت تصبح مرئية، كما تعني رؤية مرعبة لشيء قادم.

وإذا ما أخذنا النص كاملاً يصبح على النحو التالي: (شبحٌ ينتاب أوربا – شبح الشيوعية. ضد هذا الشبح اتحدت في طراد رهيب قوى أوربا القديمة كلها: البابا والقيصر، مترنيخ وغيزو، الراديكاليون الفرنسيون والبوليس الألماني). الاتحاد أتى من قوى أرضية، لا غيبية، تمثلت بـ(قوى أوربا القديمة). فهذه القوى كانت تعي قدمها وضعفها. والوعي هنا وعي واقعي لا غيبي. فهذه القوى القديمة ليست بحديثة العهد في عالم قراءة الواقع وتشويهه ليتماشى مع مصالحها. أي إن هذه القوى تملك القديمة ما يكفي من القدرة على وعي مصيرها الحتمي. فكان تحالفها ضد هذه (الرؤية) الجامحة القادمة لتكتب نهايتها.

فهذه القوى القديمة كانت تراقب عن كثب ووعي نمو قوة الطبقة العاملة ومدى قوة هذه القوى الجديدة في حال توحّدها، من هنا أتى (إنّ قوى أوربا كلها أصبحت تعترف بالشيوعية كـقوة).

فالشيوعية تمثل نقيض كل ما كان قائماً من قوى قديمة، فالشيوعية تعمل على توحيد قوة القوى العاملة كي تستطيع مواجهة هذه (القوى القديمة).

فالشبح هنا ليس بذاك (المخلوق) الروحاني، بل هو الجديد القادم المهدِّد لما هو قائم. وهنا قد تكمن إحدى القراءات الجديدة للبيان الشيوعي من خلال الغوص أكثر في معانيه وأبعاده الدلالية. وهذه المحاولة التي تبدأ بإسقاط (الشبح) ليكون (رؤية مرعبة لشيء قادم)، تبدل دلالة الشبح ليصبح لا مخلوقاً روحياً بل واقعاً مادياً ملموساً. كما أن هذه المحاولة تتناقض ليس فقط مع القراءة التقليدية للبيان الشيوعي، بل أيضا تتناقض حتى مع كثير من القراءات الراهنة للبيان، ومنها على سبيل المثال قراءة جاك دريدا، مؤسس المدرسة التفكيكية. مع الأخذ بعين الاعتبار أن قراءته لـ(شبح) ماركس جميلة ومن الجدير قراءة كتابه (شبح ماركس). كما كان له لقاء جميل بعد انهيار جدار برلين حول الماركسية وكانت بعنوان (أشباح ماركس، ودولة الدين، وعمل الحزن والعالمية الجديدة). لقاء من الجدير نقاشه وتتبع ما جاء فيه لأنه كان إجابة عن سؤال حول: ذبول الماركسية بعد أحداث انهيار جدار برلين ونهاية التاريخ. وقد عقد هذا اللقاء في إحدى جامعات الولايات المتحدة مع أبرز مثقفي تلك الفترة.

العدد 1104 - 24/4/2024