من فصول الندم

حسين خليفة:

ممّا يُروى عن الحَجّاج بن يوسف الثقفي أنه وفيما هو يستحمُّ في الخليج، أشرف على الغرق، فأنقذه أحد العامة وحمله إلى البر.
قال له الحجّاج: اطلب ما تشاء، فطلبك مُجاب!
فقال الرجل: ومن أنت حتى تُجيب لي أيّ طلب؟
قال: أنا الحجّاج بن يوسف الثقفي.
فكان ردّ الرجل: طلبي الوحيد أنني سألتك بالله أن لا تخبر أحداً أنني أنقذتك .

وبغضِّ النظر عن صحّة الواقعة أو أنها ممّا صنعته المُخيّلة الشعبية من طرائف عن الحجاج، كما هو عهد الشعوب مع طغاتها في كل زمان ومكان، فسيف الخوف المُسلّط على رقاب الناس يدفعهم إلى ابتداع أدب الطرائف أو النكت عن الطاغية وحاشيته وأزلامه. والنكتة هي من أصناف الأدب السرّي أو على هوامشه أحياناً، وقد عرف عن العديد من الحكام المُستبدين، ومنهم جمال عبد الناصر مثلاً، أنهم كانوا يجمعون، عن طريق عسسهم وعيونهم، النُّكت والطرائف التي يتناقلها العامة عنهم، ويستمتعون بسماعها وروايتها في مجالسهم الخاصة، فيما يكون مصير مؤلف النكتة وراويها وناقلها هو الاختفاء في أقبيتهم إن اكتشفوه طبعاً.

بغضِّ النظر عن هذا البعد السياسي الواضح في الطرفة المذكورة، فإنها تشير إلى فكرة لها مدلولها وظلالها الكبيرة في واقع الحياة الاجتماعية عبر التاريخ، فحين تدفعك النخوة والشهامة وطيبة القلب أحياناً لفعل جميل مع من لا يستحق ذلك، لخسّته أو بخله أو قلة ناموسه، تتمنى أن لا يعلم أحد بما فعلت، لا تيمّناً بما يقال عند فعل الخير (أن لا تعلم يُمناك ما تدفعه يُسراك) تجنّباً للتباهي بهذا الفعل، واحتراماً لمشاعر الانسان الذي قدّمَت له ذلك الفعل النبيل، بل لئلا يدري بمعروفك مع هذا الخسيس أحدٌ فيلومك على فعلتك النكراء.

وقد يرتدُّ معروفك إليك جحوداً ونكراناً للجميل، بل وأذىً يمسّك لعلّه بذلك يمحو من ذاكرته فضلك عليه مثلاً.. كما قال الشاعر:

أعلّمهُ الرماية كل يومٍ                     فلمّا اشتدَّ ساعده رماني

وكم علّمتهُ نظمَ القوافي                   فلمَا قال قافية هجاني

ولمن يجعلك تندم على فعل الخير حكايات وشجون، إذ يصادف أن يأتيك من تُسدي له معروفاً فيردّه لك طعنة تجعلك تتردّد في عمل المعروف مرّة أخرى. كذلك الرجل النبيل الذي جاءه صديق له يشكو سوء حاله، ويطلب منه أن يساعده في شراء سيارة كي يعمل عليها حتى تستقيم أحواله، فيردّها له مع الشكر.

لم يُخيّب الرجل ظنَّ صاحبه به، إذ دفع له نصف قيمة السيارة على أن تكون ملكيتها مناصفة بينهما، ويعمل هو عليها ليقضي حاجته، ولم يطالبْهُ بشيء من مردود العمل، فيما كان هو يستثمرها ويأخذ أرباحه منها.

مرّت سنون عدّة، وأصبحت السيارة في وضع سيّئ، فعاد صديقه إليه قائلاً إن السيارة أصبحت قديمة ومهتلكة والعمل فيها خاسر، فإما أن تبيعني حصّتك فيها أو تشتري حصّتي.

ولأن الرجل النبيل لا خبرة له بمثل هذه الأعمال قَبِل أن يبيعه حصّته من السيارة بثمن بخس، وهو يعلم أنه تعرّض لعملية نصب مواربة من صديقه، موكلاً أمره إلى الله.

هل يندم الرجل على عمل الخير ويُقسم أن لا يعود إليه بعد هذه التجربة المرّة؟

لا أظن ذلك، فمن جُبِلَ على النبل والخير لا يردّه عنه ماكر أو ناكر.

تحضرنا حكاية أخرى من التراث أيضاً في هذا السياق تجيب عن سؤالنا الأخير.

خرج أحد الأعراب يوماً، وهو من بني أسد، وكان لصّاً وقاطع طريق يريد أن يسرق قافلة، وخلال تجواله أراد أن يرتاح قليلاً فأخلد الى النوم، وحين استفاق لم يجد جواده وكان كل ما يحمله من زاد وماء قد رحل مع الجواد.

علم أنه هالكٌ لا محالة، فلاذ بظلِّ شجرة واستلقى تحتها مُستسلماً لنوم عميق.

استفاق الأعرابي على نداء شخص يريد إيقاظه.

نهض منهك القوى، فرأى فارساً يريد مساعدته، وبعد أن أطعمه وسقاه حتى عادت إليه قوته روى للفارس ما حدث معه مُدّعياً أنه كان في رحلة صيد.

عرض عليه الفارس أن يوصله بفرسه حيث يريد، وبسبب سوء حاله أركبه الفرس وأمسك هو باللجام. وفي غفلة من الفارس سحب الإعرابي منه اللجام وانطلق بالفرس مسرعاً، ثم التفت إليه وقال: إنني قاطع طريق وقد خدعتُك.
ناداه الفارس قائلاً: أستحلفك بالله أن تنتظر لتسمع ما سأقوله لك ثم امضِ:

أستحلفك بالله، إذا أتيت أحياء العرب، أن لا تخبر أحداً بما فعلته حتى لا تضيع المروءة بين الناس.

فما كان من اللص إلاَّ أن عاد إلى الفارس قائلاً: هذه فرسك واتركني لمصيري.

لكن مروءة الفارس أبت أن تترك اللص لمصيره المحتوم فأخذه معه حتى أوصله إلى دياره.

                                                         husenkhalife@hotmail.com

العدد 1104 - 24/4/2024