المواطَنة السورية في مواجهة أزمة حقيقية اليوم!

إيمان أحمد ونوس:

المواطَنة مفهوم إنساني_ حقوقي يتضمن جملة من الحقوق والواجبات يكفلها الدستور كما عرّفها في المادة 33_ البند 2 بأنها مبدأ أساسي ينطوي على حقوق وواجبات يتمتّع بها كل مواطن ويمارسها وفق القانون.

ولهذا نجدها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمفهوم الدولة، وهي بالتالي الصلة أو الرابطة القانونية بين الفرد والدولة، والتي تتحدّد فيها العلاقة بين حقوق الفرد في الدولة وواجباتها تجاهه بما يكفله الدستور الذي نصَّ في مادته 12 على ما يلي:

(الدولة في خدمة الشعب وتعمل مؤسساتها على حماية الحقوق الأساسية للمواطنين وتطوير حياتهم كما تعمل على دعم المنظمات الشعبية لتتمكن من تطوير نفسها ذاتياً).

وتتمثّل حقوق المواطنة في بنود ثلاثة رئيسية يتناولها الدستور بمواد مُفصّلة وهي:

الحقوق المدنية، الحقوق السياسية، والحقوق الاقتصادية والثقافية والاجتماعية. وهذه الحقوق مجتمعة تُعتبر أساسية وضرورة لا يمكن الاستغناء عن أيٍّ منها لكل مواطن، غير أن ما هو أكثر إلحاحاً اليوم في ظلِّ الوضع المعيشي المُتردي لغالبية السوريين هو المطالبة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية باعتبارها حجر الأساس لاستمرار حياة أي مواطن في سعيه لتحصيل باقي الحقوق التي لا يمكن له أن يُفكّر بها وهو في حال معيشية قاسية يصعب معها تأمين لقمة العيش. وهذا للأسف حال الغالبية العظمى من السوريين الذين يعيشون اضطراباً غير معهود خلخل واقعهم وقيمهم بما لا يقبله عقل أو منطق، لأنه مسَّ جوهر وجودهم – قوت يومهم الذي بات عبئاً ثقيلاً ينوء الجميع تحت وطأته، بسبب الارتفاع غير المسبوق في أسعار المواد الغذائية والدوائية الأساسية، والتي أضحت في غالبيتها حلماً للفقراء من العسير تحقيقه، فما يجري الآن مُخالف لأعراف السوق والاقتصاد، مثلما هو مخالف لما نصَّ عليه الدستور، وهذا ما يُثير العديد من الأسئلة حول الأسباب التي تقف وراء ذلك، والتي عملت بشكل مباشر على تشويه مفهوم المواطنة أو تغييبها بالتزامن مع غياب شبه تام للدستور وما تضمّنته مبادئه التي تعني في بعدها الاجتماعي والاقتصادي إشباع الحاجات الأساسية للأفراد، بحيث لا تشغلهم هموم الذات عن أمور الصالح العام ولا عن باقي حقوقهم المدنية والسياسية التي أشار إليها الدستور في المادة 13 والتي تنص على:

1- يقوم الاقتصاد الوطني على أساس تنمية النشاط الاقتصادي العام والخاص من خلال الخطط الاقتصادية والاجتماعية الهادفة إلى زيادة الدخل الوطني وتطوير الإنتاج ورفع مستوى معيشة الفرد وتوفير فرص العمل.

2 – تهدف السياسة الاقتصادية للدولة إلى تلبية الحاجات الأساسية للمجتمع والأفراد عبر تحقيق النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية للوصول إلى التنمية الشاملة والمتوازنة والمستدامة.

3 – تكفل الدولة حماية المنتجين والمستهلكين وترعى التجارة والاستثمار وتمنع الاحتكار في مختلف المجالات الاقتصادية وتعمل على تطوير الطاقات البشرية وتحمي قوة العمل بما يخدم الاقتصاد الوطني.

فإذا كان هذا مفهوم المواطنة في الدستور، فإلى أية خانة ننتمي، ما دمنا لا نحصل من مواصفات هذه المواطنة على أدنى حقوقنا، وهي العيش بكرامة تليق بإنسانيتنا وتلبية مستوىً ضئيل من احتياجاتنا الأساسية التي نصَّ الدستور على حمايتها وصونها كما نصّت المادة 19 التي تقول:

(يقوم المجتمع في الجمهورية العربية السورية على أساس التضامن والتكافل واحترام مبادئ العدالة الاجتماعية والحرية والمساواة وصيانة الكرامة الإنسانية لكل فرد).

وهنا يُمكننا التساؤل عن ماهية الكرامة التي افتقدها السوريون على مدى أكثر من عقدين من الزمن، أي منذ انتهاج الحكومات ما عُرِفَ باقتصاد السوء/ السوق الاجتماعي، والذي كان الخطوة الأولى نحو انسحاب الدولة من واجباتها تجاه مواطنيها، مثلما كان الفتيل الكامن الذي اشتعل فيما بعد مُحدِثاً أعنف أزمة سياسية عبر التاريخ قادت إلى حرب ما زال جمرها مُتّقداً حتى اليوم رغم توقّف أزيز الرصاص وهدير المدافع، هذا الأزيز الذي اتخذ اليوم وجهاً آخر تمثّل في انعدام القدرة على تأمين لقمة العيش، وهدير المدافع أضحى مطالبة متزايدة ومستمرة من الحكومات لمواطنيها بالوفاء بواجباتهم والتزاماتهم المُتجدّدة يوماً بعد آخر تجاه الدولة التي تخلّت هي عن مسؤولياتها تجاههم وعن حقهم الأصيل في عموم ثروات البلاد وخيراتها التي كفلها الدستور في المادة 14 التي تنص على:

(الثروات الطبيعية والمنشآت والمؤسسات والمرافق العامة هي ملكية عامة، تتولى الدولة استثمارها والإشراف على إدارتها لصالح مجموع الشعب، وواجب المواطنين حمايتها).

إضافة إلى انعدام العدالة في جباية الضرائب بين المُكلّفين، إذ تُقتطَع تلك الضريبة مباشرة من الرواتب والأجور للعاملين في الدولة، إضافة إلى باقي الضرائب المفروضة عليهم وعلى الشرائح الأخرى الأقلُّ دخلاً والتي باتت تُشكل عبئاً إضافياً على الأعباء المعيشية، في حين يستمر التهرّب الضريبي الواضح لدى كبار التجّار والصناعيين وأشباههم، ذلك أن الضريبة المفروضة على مكلّفٍ واحد يفوق الضرائب على الرواتب والأجور، في غياب تام لمحاسبته أو مطالبته ومتابعته في مخالفة واضحة وصريحة للمادة 18- البند 2، من الدستور التي تنص على:

2 – يقوم النظام الضريبي على أُسُس عادلة، وتكون الضرائب تصاعدية بما يُحقّق مبادئ المساواة والعدالة الاجتماعية.

وعليه، نجد اليوم أن المواطَنة السورية قد فقدت توازنها بسبب تضّخم الواجبات المفروضة على السوريين، مقابل تآكل حقوقهم، وبالتالي فإنها تعيش أزمة حقيقية لانعدام التكافؤ والعدالة وانسحاب الدولة من واجباتها، وفي هذا تأكيد لما صرّح به أحد الخبراء حين قال:

(تواجه المواطنة السورية أزمة حقيقية إذا ما تخلّت الدولة عن القيام بالتزاماتها المُتعلّقة بتحقيق الحاجات الأساسية من الرفاهية الاجتماعية والاقتصادية للبشر، فيصبح من الطبيعي أن يؤدي عدم إشباع هذه الحاجات الأساسية إلى ظواهر عديدة تُشير في مجملها إلى تآكل الإحساس بالمواطنة، وتبدأ هذه الظواهر بالانسحاب من القيام بالواجبات، مادامت الحقوق قد تآكلت مروراً بعدم الإسهام أو المشاركة الفعّالة على كل الأصعدة، وحتى الهروب من المجتمع، والبحث عن مواطنة جديدة، أو التمرّد على الدولة والخروج عليها، والاحتماء بجماعات وسيطة أو أقلّ من الدولة (القبلية والعشائرية وحتى الانتماءات الطائفية الضيّقة).

العدد 1104 - 24/4/2024