الوعي الحقيقي والوعي الزائف

حسين خليفة:

أكثر ما يستفزّني، ويستفزُّ كثيرين كما أعتقد، هو تبسيط موضوع مُعقّد وشائك وعميق كالنفس البشرية بعبارات أو بكليشيهات جاهزة أو بتقييمات مبتسرة لا يمكن أن تُشخِّصَ موضوعاً بسيطاً وعادياً، فكيف بهذه المواضيع الشائكة كالنفس والوجود والإدراك والروح وغيرها.

حتى في الدين الذي يعتمد على المطلقات والتبسيط، رفض الرسول الكريم الإجابة عن موضوع الروح عندما حاوره أحبار اليهود: (ويسألونك عن الروح قل هي من أمر ربي).

الآن، في زمننا هذا، يأتي عاطلون عن العمل وأشباه مثقفين ومتحدثون مهرة في الكلام الكثير دون معنىً مُحدّد، يأتي دجالو العصر ليغزوا كل المنابر تحت اسم: العلاج بالبرمجة اللغوية العصبية، العلاج بالطاقة، التنمية البشرية وغيرها من أبواب الرزق التي فُتحت لهم على مصراعيها لأسباب كثيرة أهمها هزيمة المشاريع العلمانية أو تدميرها من قبل السلطات الشمولية، وازدهار تجارة الوهم الذي يشبه إلى حدٍّ بعيد تجارة الكبتاغون الرائجة الآن.

والبرمجة اللغوية العصبية Neuro-Linguistic Programming (NLP) هي طريقة لتغيير أفكار وسلوكيات الشخص لمساعدته في تحقيق النتائج التي يرجوها. وقد أصبحت واسعة الانتشار منذ بدأت في سبعينيات القرن الماضي. تشمل استخدامات البرمجة اللغويّة العصبيّة علاج الرُّهاب (الخوف المرضي)، واضطرابات القلق، وتحسين الأداء المهني، أو السعادة الذاتية.

تُسارع جهات رسمية وخاصة، وزارات مؤسّسات جامعات حكومية وخاصة، حتى الهيئات الدولية العاملة على أراضينا أُصيبت بعدوى إدماننا على شراء الوهم وعلكه لعلّنا نُخفّف وقع المأساة، وتصب الأموال والأضواء والشهرة في خزائن دجالي العصر، من دكاترة وهميين ومُستشارين و(بروفيسورية) وماسترات ومُدربين ومُدربي المُدربين وغيرها من مراتب تشبه بياعي الكشتبانات.

الوهم الذي يتاجر به هؤلاء الدجالون وقد حفظوا بعض العبارات والجمل الفضفاضة لستيفن كوفي وغيره من أساطين هذه العلوم، يُقنع كثيراً من الناس الذي يعانون الأمرّين في تأمين ظروف عيش إنسانية، أو نجاحهم في أعمالهم أو دراستهم، فيسارعون إلى الاستنجاد بهم والتسجيل في دوراتهم المستمرة لعلّهم يحققون شيئاً ما كالغريق الذي يتمسّك بقشة.

المرضى المزمنون نفسياً أو جسدياً، الطلاب الفاشلون في دراستهم، الموظفون الطامحون إلى الارتقاء في مراتب الوظيفة دون تعب ودون واسطة أيضاً، العشاق الفاشلون.. وغيرهم الكثير يحتاجون إلى يد تمتدُّ لهم ولو كانت يداً من دخان، فيقعون ضحيةً لباعة الكلام والعبارات المختصرة.

هذه الأفكار وأفكار أخرى كثيرة اعترتني وأنا أقرأ عبارة (نظرتنا إلى أنفسنا تُحدّد مصيرنا) لأنها تدخل ضمن سياق هذه العبارات التي توهم الإنسان أن حل مشاكله كلها تنبع منه هو، دون أي اعتبار للظروف الموضوعية والقوى العاتية التي تقف له بالمرصاد لتستمر في الاستعباد والاستغلال والبطر.

نعم إننا مهما بلغنا من النضوج والحكمة والفهم والوعي لن نستطيع تحديد مصيرنا لا بنظرتنا إلى أنفسنا ولا بحفظ خلاصات الكتّاب والمفكرين، ربما تكون جملة في رواية أو قصيدة تقول شيئاً مُحدّداً لظرف مُحدّد، لكن تعميمها وتحويلها الى حكمة ثمينة هو إعادة لتلك المُسلّمات والعبارات التي يتسلل بها أولئك (النّصابون) إلى قاعات المحاضرات وورشات العمل وصالات الثقافة التي استُبيحت منذ زمن طويل لباعة الكلام أو للتفاهة بأشكالها وأنواعها.

ما يُحدّد مصيرنا هو وعينا الفردي والجمعي بأسباب مشاكلنا وهزائمنا وفشلنا، ثم العمل الفردي والجماعي عبر تنظيمات أهلية سياسية واجتماعية وثقافية تضغط على صُنّاع القرار من جهة وتنشر الوعي الحقيقي في وجه الوعي الزائف من جهة أخرى. حينئذٍ يمكن القول إننا نصنع مصيرنا.

الفهم الحقيقي والواعي للعبارة المذكورة هو هذا الفهم كما أرى، وعي جمعي وفردي يفضي إلى عمل جماعي يُخرجنا جميعاً ممّا نحن فيه من إحباط وخراب وجوع، إلى أفق حياة إنسانية لا بدَّ أنها ستأتي يوماً شاء الطغاة والمهرجون والدجالون أو أبوا.

العدد 1105 - 01/5/2024