(الذكاء الاصطناعيّ) يعزّز اللامساواة
في عام 2022، صرفت شركات التكنولوجيا الكبرى أكثر من 300 ألف موظّف يعملون لديها في مختلف أنحاء العالم. وفي أول ثلاثة أشهر من السنة الجارية، استمرّ هذا النمط مؤدّياً إلى صرف أكثر من 110 آلاف موظّف في هذه الشركات. عمليات الصرف هذه التي حصلت بشكل جماعي، لم تكن متّصلة أبداً بالثورة التكنولوجية، أي بظهور أدوات تقليد الذكاء البشري مثل روبوت الدردشة (Chat GPT) أو غيره من الأدوات المماثلة التي تظهر تباعاً بمستويات ومهارات متعدّدة في تقليد الأنماط البشرية وإنجاز الأعمال، والتي يتوقّع أن تلغي وظائف وتخلق أخرى. ففي سياق تقديرات إحصائية قال (غولدمان ساكس) إن نحو 300 مليون وظيفة في أوربا وأمريكا ستتأثّر بهذه القفزة من التقدّم التكنولوجي، وماكينزي قال أمراً مماثلاً أيضاً.. ثمّة الكثير من التقارير عن هذا الأمر، إلا أنه من الواضح، أن هذه القفزة التكنولوجية ستزيد من اتّساع الفجوة في تركّز الدخل والثروة، وسيكون أثرها أكثر عمقاً في الدول الناشئة أو النامية.
في الأشهر الأخيرة، سُجّلت قفزة تكنولوجية كبيرة تمثّلت في تطوير أدوات يمكنها أن تقوم بوظائف بشرية بالاستناد إلى تقنيات التعليم العميق التي تستعمل التجارب البشرية لاستنباط أنماط العمل. أطلق الغرب على هذه التقنيات (الذكاء الاصطناعي) في سياق ترويج تفوّقه التقني الذي يعبّر عنه بإضافة كلمة (ذكاء) قبل أو بعد كل عملية تطوير مثل المدينة الذكية، الهاتف الذكي، العقود الذكية… المهم، كل ذلك لا يتعدّى كونه عملية ترويجية للبيع، فالمشكلة الحقيقية تكمن في أنه بعد كل تطوّر تكنولوجي، منذ الثورة التكنولوجية الأولى إلى التطوّر الحالي الذي يُطلق عليه الثورة الرابعة المتصلة بمفهوم أشمل لدخول الروبوتات إلى نطاق الإنتاج بكميات كبيرة، ثمة وظائف تُلغى ووظائف تُخلق. فالأدوات الأحدث باتت قادرة على مهام الإنتاج المكثّف على صعيد واسع وفي مجالات مختلفة من الرسم إلى كتابة المقالات، إلى تحوّله إلى نسخة أكثر تطوراً وبقدرات هائلة من محرّكات البحث مثل (غوغل) و(بينغ).
إذاً، أي انعكاس على الإنتاجية في الاقتصاد؟ والإنتاجية هي مؤشّر يرسم مقدار الناتج المحلّي الإجمالي الحقيقي الذي تنتجه ساعة عمل، وهي تعتمد على ثلاثة عوامل رئيسية: الادّخار، والاستثمار في رأس المال المادي، والتكنولوجيا الجديدة، ورأس المال البشري. لذا، يبدو أن أدوات تقليد الأنماط البشرية المسماة (ذكاءً اصطناعياً) هي ليست مجرّد قفزة تكنولوجية كبيرة، إذ إن انعكاس هذه القفزة على الاقتصاد متصل بتحفيز السلسلة الإنتاجية بكاملها. ويتوقع تقرير أصدره مصرف (غولدمان ساكس) أن ترتفع الإنتاجية بنسبة 1.5% سنوياً بسبب هذه الأدوات.
إلا أن لهذا الأمر انعكاساً آخر، إذ يقول (غولدمان ساكس)، إن ذلك سيؤثّر على نحو 300 مليون وظيفة في العالم. فمع دخول هذه الأدوات إلى سوق العمل، واستبدال العمال، سيكون هناك ما يشبه إعادة هيكلة اقتصادية متصلة بجانبي قوة العمل ورأس المال. وهذا له تبعات على الاقتصادات بشكل أساسي، وعلى الفئات العاملة والمهن والوظائف أيضاً. فاستبدال العمّال بأدوات كهذه، سيخلق معدلات بطالة أعلى، ولا سيما في الدول النامية والناشئة. صحيح أنه ستخلق وظائف جديدة من أجل التحكم وقيادة هذه الأدوات ورسم استراتيجيات لها، تماماً كما حدث مع التطوّر التكنولوجي سابقاً، إلا أن الأمر لن يكون كافياً لتغطية عدد الوظائف الملغاة بفعل هذا التطوّر. وارتفاع البطالة يعني انخفاضاً في الاستهلاك و(قتلاً) لكثير من الأسر العاملة في مستويات مختلفة من المهن والوظائف التي سيحلّ محلّها الروبوت، إذ إن النسبة الكبرى من أجور العمّال تصبّ في الاستهلاك. وأولى نتائج ارتفاع البطالة تكمن في تحفيز الركود.
لذا، في الصورة العامّة تُصبح هناك زاويتان: الأولى هي ارتفاع الإنتاجية في الاقتصاد، وبالتالي ارتفاع الأرباح لأصحاب العمل، أما الثانية فهي فقدان الوظائف وبالتالي فقدان جزء مهم من الأسر لمداخيلها. النتيجة الحتمية لهذا الأمر هي ارتفاع مستويات اللامساواة في الاقتصاد. إلا أن انعدام المساواة سيكون أكبر في دول العالم الثالث، لأن هذه الدول تعاني أصلاً من مستويات لامساواة مرتفعة. من الطبيعي أن يكون انتقال أدوات الذكاء الاصطناعي إلى بلدان العالم الثالث سهلاً، فعلى سبيل المثال ChatGPT، الأداة الأشهر حالياً، يمكن استخدامها في أي بلد، وهي تحتاج فقط إلى الاتصال بالإنترنت. عملياً، إن غزو هذه الأدوات لأسواق العالم الثالث، سيساهم في زيادة الأرباح لأصحاب العمل، إنما ارتفاع معدلات البطالة فيها سيكون أصعب، لأن لا شبكات حماية اجتماعية موجودة لتلقّي الخارجين من سوق العمل. ما يعني أن من سيخسر وظيفته في هذه الاقتصادات قد يكون احتمال دخوله في حالة الفقر مرتفعاً، وهو ما يؤدي إلى زيادة حجم الهوّة في توزيع الدخل والثروة.
(الأخبار)