عصيّ على الفهم.. لأنه مقصود!

أحمد ديركي:

)عندما كان الرجل يسير سقط إلى أعلى فوقع من عليائه مرتطماً بالأرض. صدمة قادته إلى الغوص في أعماق الأرض ليكتشف عالماً علوياً لا قرار له. عالماً مغايراً للعالم الدوني…).

يمكن إكمال النص إلى ما لا نهاية. وأي إنسان يمكنه أن يكتب نصاً مشابهاً وهو يعي تماماً أن هناك أمور ليست صحيحة. والوعي يأتي من المعرفة، لذا كان الحكم بوجود أمور غير صحيحة. فالسقوط يستحيل أن يكون إلى أعلى! والغوص لا يقود إلى عالم علوي.

كتب النص بشكل خاطئ عن قصد، ليس لامتحان القارئ لمعرفة مدى قدرته على فهم النص وتصحيحه، بل كتب ليكون عصيّاً على الفهم!

فهنا نحن لسنا في امتحان مدرسي، أو للتقدم إلى وظيفة ما، إن وجدت، بل نحن هنا نحاول فهم لماذا تحدث أمور في عالمنا العربي، ونعي أنها خاطئة ولكن نتوهم أنها صحيحة؟

فمن كان بالأمس (عدواً) يشتم ليلاً نهاراً على وسائل الإعلام الرسمية، ويتهم كل من يتعامل معه على أنه (خائن) للوطن، طبعاً لأن التعامل مع العدو خيانة، يصبح بين ليلة وضحاها (صديقاً) وقد يصل قريباً إلى درجة (حليف) استراتيجي لا يمكن التخلي عنه، لأنه منقذ للبلاد من أزماتها الاقتصادية وأزمات أخرى، فـ(يحرم) شتمه على أي وسيلة إعلامية رسمية.

عدو صديق ساهم في دمار بلد عربي وصديق حليف ساهم في إعمار بلد!

يا لها من جملة عصيّة على الفهم، لأنها في الأصل جملة تحمل معنى لا معنى له! اللامعنى مقصود كما المعنى مقصود. فمنذ تشكل العلاقات ما بين الكلمات لاستكمال الفكرة بصيغة جملة، تشكلت العلاقات ما بين الكلمات على أساس خاطئ بشكل مقصود. وتسيد الخطأ وأصبح حقيقة واقعة بقوة الخطأ. وعندما أُعيدت صياغة العلاقات ما بين الكلمات، أيضاً تشكلت، عن قصد، بشكل خاطئ ليعاد تسيد الخطأ بقوة خطئه على طبيعة العلاقات الصحيحة ما بين الكلمات.

من هنا الانتقال من قوة خطأ متسيد إلى قوة خطأ متسيد أمر سهل جداً ويصبح إمكان السقوط إلى أعلى ممكناً. فالسقوط سقوط سواء كان إلى أعلى أو إلى أسفل! فيتوه معنى (السقوط) لأنه يحدد طبيعة العلاقة ما بين الأعلى والأسفل، فيدور النقاش حول الأعلى والأسفل متناسين مفهوم السقوط، لأنه لو تنبهنا إلى مفهوم السقوط لسقط الخطأ المتسيد!

لذا عندما نقارب طبيعة العلاقات ما بين الكلمات بشكل منطقي من المستحسن أن نقارب العلاقات بين الدول (الصديق العدو) أو (العدو الصديق) بشكل منطقي أيضاً كي لا تبقى الأمور عصية على الفهم رغم وضوحها. فمفهوم (الصديق) له مكوناته وشروط وجوبه التي لا يمكن أن تتغير بين ليلة وضحاها، وكذلك الامر بالنسبة لمفهوم (العدو).

فمن كان يُشتم بالأمس على وسائل الإعلام باعتباره (عدوّاً) لا يمكنه أن يصبح اليوم (صديقاً)، فالانتقال من حال إلى حال يستلزم بالضرورة شروطاً صارمة لأنه يحدث تغيّراً في المفاهيم، وإلا أصبح الحديد يتقلص بالحرارة في الليل مساوياً في المعنى لعبارة الحديد يتمدد بالحرارة الليلة التالية! وحينئذٍ نغوص في مسألة جوهر الحديد متناسين طبيعة العلاقة القائمة بين الكلمات ومعانيها ودلالاتها ما يقود إلى استعصاء في الفهم ويصبح هذا الاستعصاء مقصوداً.

العدد 1104 - 24/4/2024