كي لا نذمّ الذّامّين

جعفر فرح خضور:

تكاد زفرة قهري كألسنة اللهب تشتعل في جوفي، لطالما شردتُ طويلاً في تلك الأصوات المرسومة بأبهت حبر (قالوا). طرحت على نفسي أسئلةً ما زلتُ أبحث عمّا أرتكز عليه حتى أُجيب عنها، حيرتي تكاد كالشردقة تُفسِد كل زادٍ أرغب أن أبلل حلقي فيه!

أما من حقنا أن نسأل عن تصوّرنا القائل: إن الجدران المُتصدّعة من كثرة ضرب النصوص الحكيمة فيها بالعرض تقطع كل طرقنا!!

فُلان من الناس ذمّ جاره، لأن الأخير لم يؤيد ما قاله الأول في حديثه عمّن ذمّ جاره أمامه، هو مشهدٌ أقرب لأن يُقرن بالأنفاس في كلّ حديث وكأنه عضادة المنازل!

أيّ موقعٍ هو هذا الذي وضعنا أنفسنا فيه؟

هل من المعقول أن نُنحّي كلّ تلك الأقوال والحكم التي تنوّر حروفها مسار حياة كلّ معتبر! حدّثونا كثيراً عن الحياد والانحياز، ألم نفكّر مرّة واحدة أن ننحاز لتلك النصوص الوضّاءة! أي ثقافة بائدة التي تحكم عقولنا.. ثم على أي أساس تُبنى مقصلة الذمّ؟ ولمَ هو أساساً؟

غالباً وفي علم النفس والاجتماع يكون الذمُّ أداة أو وسيلة لترميم الفجوة والنقص الداخلي، فتارةً يذمُّ شخص شخصاً آخر وهو مفتقر لأدنى ما يملكه ذاك الشخص، وتارةً ما يتشفّى منه عبر الذم!

في مجتمعنا اليوم، يغدو الذمُّ شبه روتيني لدرجة أنك قد تُذّم لأنك لم تُساعد على الذمِّ، وفوق كل هذا الخراب تأتيك ثقافة من صنع اللا عمل لهم، ثقافة (قالوا) و (سمعوا) ألم تسمع؟ بل وحتى من جهالتهم لا يعرفوان التفريق بين الذمِّ والقدح!

المهم أن يحكوا وينسجوا ما يشاؤون من ألاعيب وأكاذيب، هم ليسوا أغبياءً، بل أغبياءٌ متذاكون، غالباً ما ينكشف أمرهم ويُفتضح.

لو قرأنا ردّ الربيع بن هيثم عن سؤال الإعابة، لوجدنا أن هذا الشخص قد رأى ما فيه وفهمه قبل أن يسعى لأن يرى واقعه، وبالتالي يؤكّد شيئاً مهماً، يطرح العديد من الاسئلة على من يمتهن الذم مفاده:

هل رأيت نفسك وفهمتها حتى تتقوّل على الآخر؟!

ما يعني أن فراغك مملوء عند غيرك، وفراغه قد يكون كلّ ما فيك بتفكيرك الأسود هذا، لأنك عندما تلتفت لذاتك ستجد أنها مشرّعة الأبواب في ريح الأخطاء والعثرات، وعليه يبنى أن الكامل وهو لن يكون كذلك ما لم يفهم ويبني ذاته ولا يذمَّ غيره، بل ينزعج لمجرد حضور هكذا شكل بائس في حديث من حوله.

لكن بالطبع لا يعني كلامنا السابق أو يدلل – حتى لا يجد الذّام منفذاً للعبور – أن اكتشافه لذاته يجعل منه ذّاماً للآخرين، لأنه عندئذٍ سيقع بين النقد والذم، وينتقل من الإصلاح إلى الذبح والإفساد.

ما أرغب فيه أن نحتكم لعقلنا، ولن نحتكم ما لم نتعلّم، ولن نتعلّم ما لم نفهم أنفسنا، ولن نفهمها حتى ندرك أن حصيلة حياتنا من ألسنتنا وأفعالنا، فهل نجبي ما يُزهر الحصيلة؟

لنجلس مع أنفسنا ونجري مقاربة عقلية، لمَ لا نحاول أن نكون مميزين في عصرنا، ننهض من تحت دلف التشاؤم والتكرار، ونمتشق أسنة الإصلاح بالنفس والعقل قبل كل شيء وذاتياً، أم نعيب والعيب كالحرق على الجبين؟ فلنعتبر.. أرجوكم!

العدد 1104 - 24/4/2024