هل ننهض من تحت ردم التفكير التقليدي؟

جعفر فرح خضور:

أوّل ما تبادر إلى ذهني عند مقاربتي لإمكانية تقبّل نتائج التفكير الناقد في مجتمعنا المنغلق إلى حدٍّ ما، استحضار ما هو أقرب إلى واقع الحال: (زراعة الأعضاء)، ذلك أنَّ هذا النوع من العمليات يواجه مشكلتين أساسيتين: مصدر العضو المُراد زراعته أوّلاً ورفض الجسم له ثانياً، ومن عوامل نجاحه ما هو مرتبط بمعقد التوافق النسيجي الأعظمي(MHC) لأنه يتغيّر خلال مراحل النمو البشري، وعلى أساسه يُقاس مدى نجاح عملية الزراعة.

يُبنى على المثال المطروح فرضيات كثيرة، مطلعها هو:

تعريفية الفكر الناقد ضمن المجتمع الداعي لتبنّي هذا النوع من التفكير كثقافة بحدِّ ذاتها، أو لنقل ما هو أسلوب حياةٍ للمثقف شأن ذلك الزّاد للصائم، فالتفكير الناقد كتركيب بنيوي يتطلّب رغبة الفرد فيه، لأن كلّ مُستثَار فكرياً إرادياً هو ناقد ولو لم يستجمع مهارات التفكير وشروطها ككل. تكون الاستثارة على مستوى الفكر والتفكير حيال حالة التناقض التي يعيشها الفرد، ما يعني أن التناقض المحسوس هو المنادي بهذا النوع من التفكير، فالواقع الحياتيّ إذا ما احترم مفكّريه سيكونون بسوادهم الأعظم ناقدين بعلمهم أو من دونه.

لكن هذا بالطبع لا يجري كالمُطلقِ على إطلاقه، ما دمنا أردنا الانطلاق من النقد بخواصه القائمة بأصلها على (أنّه عملية ذهنية يؤديها الفرد عندما يحتاج للحكم على قضية، أو مناقشة موضوع، أو إجراء تقويم عن طريق تحليل المعلومات وفرزها واختبارها بهدف التمييز بين الأفكار).

تأسيساً على ذلك، يتضحّ لنا مدى أهمية توسيع مدارك المعرفة الذهنية لإجراء الحوكمة العقلية وكأننا أمام عملية اختيار من مُتعدّد، في سبيل الإجابة الصحيحة عمّا نريده، وعمّا هو مُراد، وكيف نقوِّم ما سنستنتج!

يبدو سؤالاً حسّاساً يستوجب التنقيب عن إجابته، في قياس ردّة الزلزال الفكريّ على مقياس ريختر المألوف أمام مُخرجات التفكير الناقد كمهارة مدرِّبة للملَكَات الإبداعية لكلّ فردٍ منّا، ولنكون أمام الإجابة لا بدَّ أن نخرج من بيت الاسئلة التي سوف تستتبع خطوة التفكير الناقد، وعلى ضوئها وربطاً بتعدّد ثقافات المجتمع نُحدّد ما إذا كنّا مستعدين للمواجهة أم لا.

من مُخرجات التفكير، الاعتراف بالأخطاء والتعلُّم منها، التحقّق من المعلومات والقضايا، تعزيز الاستقلالية في التفكير، تطوير القدرة على فهم الآخرين وتقبّلهم.. فهل أنتم تتعلّمون، تتحقّقون، تستقلّون، تتقبّلون الآخرين؟

يكاد المجتمع السوري اليوم يرفض الآخر بشكلٍ شبه كلّي لمجرّد أنه قد يخالفه في الرأي، ويحقّره، ويخوّنه، وذلك امتداداً لتربية تربّى في كنفها قمعت رأيه وصوّرته في مرحلةٍ ما أنه صاحب الرّأي الصحيح الأوحد، يترجم النصيحة بأنها شماتة! يخلط بين الحقيقة والرأي ويرثي ما تبقّى من ثقافة تقليدية! ما يُدلل على أنّ الرغبة في الارتقاء الفكري تجدها شبه معدومة أو باهتة، حتى المحاولة تكون ركيكة في هذا المسار.

تتركز الخطورة الأساسية في مُخرجات التفكير الناقد في الحالة التي سيعيشها المجتمع بين فاصلين يختلفان كلّيّاً أحدهما عن الآخر، ذاته، مجتمعه، أهله، فكره، أسلوب حياته، أي النتائج التي يستفيق عليها، وهو ما سيطوّر المنهاج الفكري على كلّ الأصعدة ضمن إطار معرفة ذاتي والآخر، وتفرُّدي المستقل في تفكيري، واستساغة الجديد ولو لم يكن كما أُريد.

أيّ هبّة على مستوى الدولة والمجتمع بالكامل، وهو أمرٌ عقيم التحقّق نسبياً في مجتمعنا السوري لأسباب لا ترتبط فقط بالقدرة على تقبّل المآلات، بل بروافع الشروع في نشر هذه المهارة ونظرة من يتعلّمها إلى أين هو سائر.. وأين سيكون أو سيصل؟!

ببساطة سيجد نفسه في مجتمعٍ يلفظه لأنه جاء بالجديد، وبيّن الفرق بين الرأي والحقيقة، وفكّر من خارج الصندوق، ونهض بمفرده في تطوير ذاته وليس بمن حوله لانغلاقهم العِرفي أحياناً، ورؤية أنفسهم بأنفسهم على المقلَبَين.

المحامي يرى أن المحاماة مُحقّقة العدالة الوحيدة، الطبيب يرى نفسه المُعالج الوحيد، السياسي يرى أن علمه سقف معبد باقي العلوم.. بفكر كهذا، هل ننهض من تحت ردم التفكير التقليدي؟

من عندهم وغيرهم نبدأ، لنبتدئ رحلتنا الطويلة الشاقّة في ألفة الجديد الأليق.

العدد 1104 - 24/4/2024