أمُّ الآلام

جعفر فرح خضور:

غريبٌ هو أمرنا نحنُ العرب، نجعل لكلّ شيء يوماً خاصاً به، أو نحتفل بما لم نظفر بتخصيصه أصلاً، نسرد من زمنيّة الشيء خصوصية في إطار تلك الزمنية ونجرّد أحياناً من معاني المكانيّة في الأنفس والوجدان. تجد للمعلم عيداً نذكر فضائل المُعلِّم فيه فقط، وللبيئة يوماً وكذلك الحال ندعو للحفاظ عليها في يومها فقط. ولم تكن الأم بمعزلٍ عن ذلك أيضاً، نرصف الكلمات لأجلها في عيدها، نذكر فضلها، حنانها، حنوّها نحو أرواحنا، لماذا؟ ببساطة، لأننا في مجتمعٍ مريض يلفظ أنفاسه الممجوجة على الأسماع، ليُحيي معايدات الأُمّهات في أيامهن حصراً.

عانت الأم السّورية ولا تزال تعاني من مطبّاتٍ كثيرة، فرضت عليها الظروف أن يتعدّى دورها التكويني الخَلقي من حملٍ وفصال ورِضاع، إلى أن تكون أمّاً وأباً في آنٍ معاً، هو ليس حديثاً تألفه مسامع كلّ الطبقات، فالظروف عند البعض والمصائب فوائدُ عند البعض الآخر، لأن الهالة التي تعيش ضمنها الأم السّورية تختلف مرتسماتها، وتختلف المرتسمات المذكورة بتغيّر النظرة إلى الأم أوّلاً بشكل أساسي تنفصل فيه عن عَظَمتِها الدينيّة والدنيويّة، وبالحالات المعيشيّة القائمة ثانياً.

باتت الأمّ السّورية تتهادى نحو لقب (أمُّ الآلام)، لِما أسدلته الحرب الدامية عليها كجزء غير مجتزأ من المجتمع، فقد وزَّعت الحرب بطاقات تسميةٍ كان أكثرها: الأم الثكلى بفقد أبنائها على مذبح الوطن، والأرملة بفقدان زوجها، ما جعلَ منها بوابة المسؤولية المتفوّقة على طاقتها ومقدراتها، ففوق الحرقةِ والمِحن الذابحة من مُرّ البِعاد، يطعن المجتمع بسكّينهِ ما تبقّى منها.

أرى أنَّ الأم السّوريّة ظُلمت لا خلال فترة الحرب فحسب، ولا الزلزال الذي لم يُبقِ ولم يَذر، والّذي أبى أن يجعلها تُمَتِّع بصرها الشاخص إلى منتوجِ روحها الدفين في الأحشاء لدرجة احتفاظه بمشيمةِ ولدها المدلوق من رَحِم الرُّكام، بل كانت منعوتة بقهرٍ وشقاء فرضه واقعها الرّيفي من خلال عملٍ يفوق جهدها وعزمها، من الفَجرِ حتى النَجر، تتوزع المهمّة بين أصابع تكاد مبتورة من حَجم الضغوطات.

لا يزال الحديث المكرور هذا يدور في حلقةٍ مفرغةٍ ومفرّغة ما لم ننظر بعين الحقيقة الواقعية إلى ما وصلت إليه الأم السورية، كي نصل إلى قناعة لا تفصل بين عقلية المجتمع المؤدِّية إلى ما تعيشه اليوم، فهو لا ينظر إلى المرأة قبل أن تكونَ أُمّاً كعائل لأسرة ستكون قيد التكوين، أو كنظرةٍ مطهَّرة من أدران الوصمة الشهوانيّة المُفرِطة لها قبل أن تكون هكذا أيضاً، بمعنى أن الظروف تُقارب من واقعها المرير وحدّة ألمها، لكن لا يمكن أن يكون هذا سبباً أوحد، فتاريخياً كانت المرأة مظلومة، وارتقت قليلاً تناسقاً مع منهج فكري داعٍ لمعرفة قيمتها، حتى وصل بها الأمر أن تواجه ظروفاً ما زال يُنظر إليها من خلالها بتلك النظرة المَرَضيّة.

لا يمكن أن تحتل الأم مكانتها الرفيعة، بشرفها الأسمى وهو الأمومة، ما لم يبصر المجتمع ذاك النور الذي مُزِجَ قلبها به، نور الله جلَّ وعلا، فالأم لا تريد أن تكون بخير، بقدر ما ترغب أن يكون أولادها بخير، لأنَّ خيرهم منها، وهم لن يكونوا كذلك ما لم يخفّفوا من معاناتها، ليست الحياتيّة فحسب، بل المعنويّة المجبولة بها أفئدة الأمهات الفائضة بكل نَسَمات الحنان العَطِر، فالمجتمع هو سبب المعاناة الأولى قبل أي معاناة أخرى، والجروح تشفى إذ ما أحسنّا الدواء،

فكلّ عام والأمهات جميعاً بألف خير!

++++++

  • المجتمع هو سبب المعاناة الأولى قبل أي معاناة أخرى
  • تاريخياً كانت المرأة مظلومة، وارتقت قليلاً تناسقاً مع منهج فكري داعٍ لمعرفة قيمتها
العدد 1104 - 24/4/2024