التغنّي بنصف الكأس الملآن لا يكفي

يونس صالح:

مستوى المعيشة قضية أساسية في مختلف المجتمعات، فالقصد النهائي لجهود يبذلها الفرد أو يبذلها المجتمع أن يعيش بشكل أفضل. وقد تصدت وسائل القياس تاريخياً للجانب المادي في حياة الإنسان، فذهب البعض لاتخاذ متوسط الدخل أو نصيب الفرد من الناتج المحلي مؤشراً للتقدم أو التخلف في مستوى المعيشة، وراح البعض يقيسون ذلك بمجموع ما يستهلكه الفرد من سلع وخدمات، أو مدى الوفاء بحاجاته الأساسية من مأكل ومشرب ومسكن وصحة وتعليم وثقافة، بل وترفيه أيضاً. وذهب آخرون لقياس التقدم والتخلف في حياة البشر بما يستهلكه الفرد من مواد أساسية، كالحديد أو بما يستهلكه من الطاقة كعنصر حاكم، وربما ما يحوزه أيضاً من أجهزة العصر المنزلية كالثلاجة والتلفزيون وغيرها.

تعددت الوسائل وراحت التقارير الدولية تلاحق ذلك، وأشار البعض منها إلى أن تقدما مادياً ما قد حدث في البلدان العربية خلال خمسين عاماً مضت، فلقد اتسعت البنية العمرانية خلالها وتوفرت العديد من الخدمات المختلفة سواء في التعليم أو سوق العمل، وانتشرت وسائل الاتصال، وقلت وفيات الأطفال بصورة عامة، واختفت كذلك أوبئة كانت تودي بحياة الآلاف.

لقد حدث كل ذلك ولكن بقي (نصف الكوب الفارغ)، وهو مسألة (الحرمان)، وكلمة الحرمان وصف أدبي، ومع ذلك يمكن ترجمتها بالأرقام. فحسب التقارير الرسمية والعالمية بقيت نسبة الفقر عالية، ونسبة الأمية كذلك، أما نسبة الاستفادة من الخدمات الصحية فهي لاتزال أقل مما ينبغي.

وللفقر قصة طويلة، فهي ترتبط أحياناً بالتخلف الاقتصادي وانخفاض مستوى الدخل بشكل عام، وترتبط في أحيان أخرى بسوء توزيع الثروة، وهي الظاهرة التي سجلتها تقارير دولية عديدة، سواء على مستوى الدول أو داخل المجتمع الواحد، فظاهرة تركز الثروة يصاحبها عادة اتساع دائرة الفقر.

وإذا كانت دائرة الحرمان تبدأ بالفقر، وغياب فرص العمل، فإن الدائرة تتسع لتضم مظاهر الحياة اليومية من سكن ومأكل ومياه وخدمة صحية أو تعليمية.

في تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، فإن الذين عانوا من غياب المرافق الصحية منذ أوائل القرن الحادي والعشرين قد بلغ عددهم في البلدان العربية أكثر من مئة مليون، أي نحو 34% من السكان، وإذا انتقلنا إلى دائرة أخرى تصل الإنسان بعالمه، وتمثل العتبات الأولى للمعرفة، فإننا نفاجأ بأن نسبة الذين لا يعرفون القراءة أو الكتابة في المدة ونفسها تصل إلى 40% من السكان البالغين. وهناك أرقام كثيرة أخرى تتصل بالحرمان الذي تعانيه جماهير واسعة في البلدان العربية. إن نصيبنا من الماء ضئيل، والصراع من حولنا يؤكد أنه سوف يقل عاماً بعد عام، وبما يؤثر على التنمية الاقتصادية والبشرية وربما أمن المنطقة كلها.

الحرمان يشمل الكثيرين، ونصف الكوب الفارغ يضم عشرات الملايين، ومع ذلك يبقى للمرأة مركز الصدارة في الحرمان!

في سوق العمل هي الأخيرة، فواحدة من بين كل ثلاثة نساء يدخل مجال الحياة العملية، وإذا ضاقت فرص العمل كانت أول من يعود إلى البيت، ومشاركة المرأة في العمل السياسي ما زالت ضئيلة ومحدودة، ولا تحوز المرأة أكثر من 5% من المقاعد البرلمانية.

أما في بلادنا، فرغم حرمان المرأة من المساواة الحقيقية، فهناك حرمان يفوق ما يعانيه الرجل والمرأة معاً فوق أرضنا، ذلك هو حرمان اللاجئين الذين هجروا أو هاجروا وتركوا وطنهم لأسباب عديدة معروفة.

هناك نحو خمسة ملايين مواطن سوري خارج وطنهم حسب بعض التقارير غير الرسمية، ويحملون لقب لاجئ، طبقاً لتعريف القانون الدولي، لقد أجبرتهم ظروف الاضطراب والأزمة الداخلية في البلاد وغياب الأمن وفرص العمل على الهجرة.

خمسة ملايين تعترف بهم مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، أي نحو ربع سكان البلاد، والرقم لا يشمل المهاجرين اختيارياً. الحرمان عندنا يترجمه الواقع الذي نعيشه، ونصف الكأس الفارغ مازال بحاجة إلى من يملؤه، وربما لمن يتذكر ولا يكفي أن نتغنّى بنصف الكوب الممتلئ.

 

++++++++++++

 

  • للفقر قصة طويلة، ترتبط أحياناً بالتخلف الاقتصادي وانخفاض مستوى الدخل بشكل عام، وترتبط في أحيان أخرى بسوء توزيع الثروة
  • إذا ضاقت فرص العمل كانت أول من يعود إلى البيت، ومشاركة المرأة في العمل السياسي ما زالت ضئيلة ومحدودة
العدد 1104 - 24/4/2024