أقدار السوريين الظالمة

إيمان أحمد ونوس:

واجهت السوريين منذ سنوات سبقت الأزمة التي انفجرت عام 2011 حتى اليوم أقدارٌ قاسية وظالمة، لأسباب لا يد لهم فيها سوى أنهم سوريون طيبون يحبون الحياة ما استطاعوا إليها سبيلا رغم كل ما واجههم ويواجههم اليوم، وتلك الأقدار التي لا تُنسى ولا يمكن تجاهلها حتى بعد أجيال وأجيال يمكن أن نشخّصها ونُلخّصها على التوالي بدءاً من:

*قدر السياسات الحكومية المُتّبعة قبل نشوب الحرب المُتمثّلة بانتهاج اقتصاد السوق/ السوء الاجتماعي الذي ترك المواطنين من كل الفئات في مواجهة أقدارهم، التي باتت عرضة لتقلبات السوق من جهة، ولإرادة الحكومات المُتعاقبة التي لم تُحرّك ساكناً حيال ما آلت إليه معيشة الناس من غلاء وبطالة فرضتها سياسات الانفتاح، التي كانت سبباً رئيسياً في إغلاق العديد من المنشآت الحرفية والصناعية ولم تصمد طويلاً أمام البضائع المستوردة على اختلاف أنواعها وأصنافها حينما غزت الأسواق السورية، إضافة إلى فتح أبواب الخصخصة على مصراعيها في اتجاهات أخرى كالتعليم بمختلف مراحله مثلاً، وكذلك الحال بالنسبة للقطاعات الأخرى التي باتت منافساً خطيراً للقطاع العام الذي تعرّض للعديد من النكسات والخسارات دون السؤال عن الأسباب وضرورة معالجتها كي يبقى هذا القطاع حيوياً بما يخدم الاقتصاد من جهة، وبما يخدم كل الشرائح العاملة فيه لاسيما في مجال تطوير الخبرات ورفع الأجور بما يتناسب والغلاء الذي استشرى لدرجة لم تعد تلك الرواتب والأجور بقادرة على تلبية الاحتياجات الأساسية لمعيشة العاملين وأُسرهم، رغم كل المناشدات حينذاك بضرورة رفع الأجور وتخفيض الضرائب عليها. هذا غيضٌ من فيضِ ما تعرّض له السوريون حين مواجهة أقدار السياسات الحكومية التي قادت بالتأكيد إلى:

*قدر الأزمة السياسية عام 2011 والحرب التي أدّت إليها واستمرت لأكثر من عشر سنوات وما زالت مُستمرة في بعض المناطق حتى اليوم، حرب واجه فيها الناس مصائر وأقدار لم يشهد لها التاريخ مثيلاً من حيث نسب التهجير والنزوح الذي تعرّض له آلاف السكان، وكذلك الدمار الذي طال أحياء وبلدات وقرى بأسرها ما جعل سكانها يفترشون العراء أو مراكز الإيواء التي افتقدت للكثير من الأساسيات، إضافة إلى دمار كثير البنى السكنية والخدمية والمرافق العامة والخاصة. كل هذا كان مترافقاً مع انعدام الأمن والأمان وحتى أبسط الشروط المعيشية الأساسية للإنسان، فقد كانت القذائف تنهمر كالمطر على من يضعهم القدر في مواجهة تبعاتها المختلفة حتى بات الخوف والقلق رفيق الساعات والأيام بلياليها للكبار والصغار على حدٍّ سواء.

*لكن القدر بقي بالمرصاد لغالبية السوريين حتى حين عمّ الأمن والأمان والسلام أغلب المناطق، فكانت هناك حرب وقذائف من نوع آخر، مصدرها ثلّة من أثرياء وتجّار الحرب الذين استباحوا وأباحوا كل الحرمات والمحرمات في سبيل تكديس المزيد من الأموال والأرباح يجنونها من أي طريق كان حتى ولو على حساب جوع ووجع آلاف الأطفال والكبار والكهول، ابتداءً من رغيف الخبز وليس انتهاء بالدواء وكل مستلزمات المعيشة في أبسط أبسط شروطها واحتياجاتها الإنسانية التي أقرّها الدستور وطالب بصونها كما أقرّتها الشرعة الإنسانية قبل الدولية، وذلك وسط تجاهل خطير من قبل جميع الحكومات المتعاقبة التي لم تُصغِ لا لأنين الأطفال ولا لجوعهم ووجعهم، فما بالك بأنين الكبار وقهرهم، بل بالعكس فقد تتالت القرارات والسياسات التي قضمت وما زالت تقضم حتى فتات الخبز الذي ربما يحوزه الناس دون أدنى شعور بالواجب والمسؤولية التي أنيطت بها وأقرّها الدستور، لأنها حقيقة حكومات تهتم فقط بأصحاب رؤوس الأموال المشبوه بعضها، الذين برزوا على الساحة الاقتصادية بين ليلة وضحاها يبذخون بشكل أسطوري، بينما غالبية الناس تتضور جوعاً وسط ارتفاع نسب الفقر الذي طال ما يُقارب تسعين بالمئة من السوريين، وكذلك أولئك التجّار والصناعيين وكبار الملاكين الذين لم يخسروا حتى اللحظة قرشاً واحداً رغم كل ما جرى ويجري، لأنهم بلا شكّ يجنون كل قرش تفرضه عليهم الحكومة من أموال ولقمة البسطاء الذين قاوموا رغم انعدام الضوء والدفء.

*وعلينا ألاّ ننسى قدراً آخر كان للسوريين بالمرصاد ألا وهو وباء كورونا الذي اجتاح العالم وكان له تداعيات خطيرة على عموم البلدان والمجتمعات، لكن غالبية الحكومات هناك وقفت إلى جانب الشرائح المُتضررة من خلال الضمان الاجتماعي وما يشابهه، بينما لدينا نحن فقد ضاعف نسب البطالة والعاطلين عن العمل بسبب إغلاق العديد من مصادر العمل والرزق حينذاك والبعض ما زال مغلقاً حتى اليوم، إضافة إلى العديد من الإجراءات التي فرضتها الحكومة على البشر بذريعة هذا الوباء.

*ولم يتوانَ القدر عن التصدي لآلاف السوريين، فكان أن بعثت الطبيعة الغاضبة من جشع البشر زلزالها القاتل والصادم صبيحة 6/2/2023 فأضاف إلى معاناة السوريين معاناة أشدّ وطأة من كل ما ذُكِرَ أعلاه، فقد تشرّد آلاف الناس من بيوتهم وهجروا أحياءهم، في حين مات الآلاف تحت الأنقاض رغم كل الجهود التي بذلتها جهات محلية وعربية ودولية لإنقاذهم، فعادت من جديد مأساة التشرّد ومراكز الإيواء ومسلسل المعونات والمساعدات التي قدمتها جهات مختلفة، إلاّ أن أكثرها إنسانية كانت تلك المساعدات التي قدّمها غالبية السوريين رغم ما يعانونه من عوز وفقر وجوع، فأثبتوا بذلك أن السوريين البسطاء الطيبين كانوا الأسرع في تقديم كل ما يتمكنون منه كي ينقذوا إخوة لهم، وأثبتوا أن السوريين عموماً قادرون على النهوض بعد كل كارثة تصيبهم ربما أسرع من الحكومة التي بدل أن تُخفّف من معاناة الناس أصدرت قرارها بزيادة سعر المازوت الصناعي الذي سينعكس حكماً علينا جميعاً كفقراء وبسطاء دون استثناء.

فإلى متى سيبقى القدر أحمق الخطا بالمرصاد لنا نحن السوريين القابضين على جمر الوجع والقهر والجوع والبرد؟!

العدد 1105 - 01/5/2024