حياة مستحيلة

حسين خليفة:

لطالما كرّرنا مفردة (مستحيل) في أحاديثنا اليومية، وفي كتاباتنا وتحليلاتنا لاحتمال حدث ما، واجتهدت المخيلة الشعبية في ابتداع ترتيب أو درجات للاستحالة، فصارت عبارة رابع المستحيلات أيضاً من العبارات التي تتردّد كثيراً لوصف أمرٍ في غاية الاستحالة.

لا بدَّ من الإشارة إلى أنه لا يوجد شيء مطلق، وإنما الأمور كلها نسبية، ومنها المستحيل، فأي مستحيل الآن هو ممكن غداً، وأي مستحيل هنا ممكن في أماكن أخرى، أو في ظروف أخرى.

الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا، وامتدت آثاره إلى شمال غرب سورية وخلّف آثاراً كارثية في أكثر من منطقة، فتح الباب على السؤال نفسه.

ألم تكن حياتنا خلال الحرب وبعدها وما اكتنفها من جوع ونقص فادح في الخدمات وشروط الحياة اجتراحاً للمستحيل؟

ثم جاء الزلزال بآثاره الكارثية والمدمّرة ليضيف مستحيلاً آخر، أو درجة أخرى من الاستحالة، فأمكننا القول: أنت سوري إذاً أنت ابن المستحيل.

أنت تحمّلت عقوداً من الصمت أمام حفلات التكاذب والنفاق وتمرير ما لا يمرّ مقابل أن تبقى على قيد الحياة، أي على قيد الأمل.

ثم، حين انفجر مرجل الصمت ولم يعد للصبر حدود، خرج السوريون طلباً لحياة حرة كريمة، وكان اجتراحاً آخر للمستحيل، أن يخرج هؤلاء المقموعون الخائفون اللائذون بالصمت عقوداً إلى الشوارع مجاهرين بمطالبهم.

لكن العقاب كان قاسياً من الجهات كلها.

قوبل السوريون بالتنكيل والاعتقال والقتل والتهجير. أصبح لدينا مئات آلاف الشهداء وأكثر منهم جرحى ومعاقين وملايين المهجّرين داخلياً وأكثر من عشرة ملايين مهاجر إلى أصقاع العالم.

ثم تحولت إلى حرب ضروس على الأرض السورية تداعت إليها كل ذئاب الأرض ليقضم كلٌّ حصّته من البلاد، وما زالوا جاثمين على أنحاء مختلفة منها.

نعم، لم تنتهِ الحرب، فحرب الجوع والظلام والحرمان أصبحت أقسى من حرب القذائف والصواريخ والرصاص.

كان السوريون يصارعون قوتهم اليومي في أتون الجوع والفقر والنهب المتزايد لما تبقى من مدّخراتهم الضئيلة.

لم تنتهِ الحرب، وجاء غضب الطبيعة ليضيف إلى آلامهم آلاماً، وإلى معاناتهم معاناة، وإلى ضحاياهم ومُقعَديهم أعداداً جديدة، والى خراب الديار خراباً جديداً.

كشف الزلزال، كما كشفت أحداث السنوات القاسية الماضية، هشاشة البنى السياسية والاقتصادية المتحكّمة بمصائرنا، لكنه كشف بالمقابل حيوية المجتمع السوري المشتّت المقسّم المنهك.

لقد تداعى السوريون في البلد وفي المنافي، بما يملكون من جهود وإمكانات، إلى نجدة إخوتهم المنكوبين بالزلزال، وسجّلوا سطوراً مضيئة أكّدت أن هذا الشعب سيعيد بناء بلده ما إن تتاح له الفرصة، وتزاح عنهم غوائل الاستبداد والاحتلال وتجّار الحرب.

إنّ الحل السياسي القادم، شاء من شاء وأبى من أبى، سيعيد الاعتبار إلى إبداع السوريين في مواجهة الخراب، ما إن يُنجز هذا الحل على أساس مشاركة السوريين كل السوريين على اختلاف قومياتهم ورؤاهم وتوجهاتهم ومللهم وأحزابهم، وعلى أساس القرارات الدولية، وخاصة القرار 2254 كبرنامج أساسي للحل الذي يقوم على الحوار الحر بين السوريين بعيداً عن الخوف والضغوط لاختيار مستقبل بلدهم، وطريقة إدارة شؤونهم ومواردهم بسلطة منتخبة تداولية تخضع لدستور متفق عليه بين كل السوريين، وقوانين تكون فوق الجميع.

يُخزّن الشعب السوري طاقة إيجابية كبيرة أُميط اللثام عن بعضها مع فاجعة الزلزال، وربّ ضارة نافعة، وهذه الطاقة ستؤكد للصديق والعدو قدرة هذا الشعب على الخروج من الكارثة المستمرة وإعادة بناء البلد والإنسان من جديد.

هل سنبدأ قريباً؟

أتوقع ذلك وأتمناه أيضاً، فأحلكُ ساعات الليل آخرُها، وصباح سورية قادم أراه على بعد شهقة طفل على تداعي منزله، ودمعة أم فقدت أولادها في الحرب أو الزلزال.

العدد 1105 - 01/5/2024