الرقص العبثي لبايدن.. داخل فوالق سياسية

د. نهلة الخطيب:

(لقد أرسلَنا الشعب الأمريكي إلى العاصمة واشنطن لتقديم اتجاه جديد للبلاد ولإيجاد أرضية مشتركة ومناقشة أولوياتهم، من واجبي الرسمي أن أدعوكم للتحدث أمام جلسة مشتركة للكونغرس في يوم الثلاثاء 7 شباط 2023 حتى تتمكن من الوفاء بواجبك لتقديم تقرير عن حالة الاتحاد)، هذا هو نص الرسالة التي بعثها كيفن مكارثي (رئيس مجلس النواب الجمهوري) المعتدل، المنتخب حديثاً، إلى الرئيس جو بايدن دعاه فيها إلى إلقاء خطاب حالة الاتحاد.

خطاب حالة الاتحاد واجب دستوري نص عليه الدستور الأمريكي في مادته الثانية، ويقتضي أن يُطْلِع الرئيسُ الكونغرس من وقت إلى آخر على ما يجري، ويستعرض حالة البلاد على الصعيدين الداخلي والخارجي، ويعرض إنجازات إدارته وأهم التحديات التي تواجهها، ويقترح جدول أعمال تشريعياً للسنة المقبلة وتوصيات السياسة العامة، ولم يحدد مضمونه بدقة في الدستور، فأصبح تقليداً رئاسياً عريقاً يعقد سنوياً في مقر الكونغرس (الكابيتول)، وعادة يُعقد في الشهر الأول أو الثاني من السنة، بحضور مجلسي النواب والشيوخ وقضاة المحكمة العليا، إضافة إلى عدد من الشخصيات يدعوها كلٌّ من رئيس الدولة ورئيس مجلس النواب لا يتجاوز عددهم خمسين شخصاً من جهات رسمية وشعبية، تبثه وسائل الإعلام ويستحوذ على اهتمام شعبي كبير.

كان جورج واشنطن أول من بدأ تقليد إلقاء الخطاب وامتنع عنه الرئيس توماس جيفرسون، لأنه لا يليق بالديمقراطية حسب رأيه واستعاض عنه برسالة خطية موجهة إلى الكونغرس، وبقي هذا الأمر فترة طويلة إلى أن أحياه الرئيس وودرو ويلسون وقدّم خطاب الاتحاد أمام الكونغرس مع ظهور وسائل الإعلام (الإذاعة والتلفزيون) في ثلاثينيات القرن الماضي، ومنذ ذلك الوقت أصبحت تعرف بـ(خطاب حالة الاتحاد).

استعراض خطابات حالة الاتحاد لرؤساء أمريكا يحتاج إلى وقت ودراسة كبيرة جداً، ولكن من بين أبرز الخطابات التاريخية عن حالة الاتحاد ذلك الخطاب الذي ألقاه جورج بوش الابن عام 2002 بعد هجمات 11 أيلول عام 2001، تحدث فيه عن الإرهاب ومحور الشر (إيران والعراق وكوريا الشمالية) وشرق أوسط جديد، وهو استراتيجية صانع القرار الأمريكي الذي مازلنا نشهدها منذ ذلك الوقت.

ألقى الرئيس جو بايدن خطاب حالة الاتحاد (الأسبوع الماضي) أمام كونغرس يسيطر الحزب الجمهوري على أحد مجلسيه، واستعرض فيه حالة الولايات المتحدة الأمريكية خلال العامين الماضيين من داخل مبنى الكابيتول، استهلّ كلامه عن الديمقراطية في بلاده التي لا تقهر، داعياً الحزب الجمهوري المعارض للعمل معه، تحدث عن الكثير من المواضيع المختصة بالشأن الداخلي، من انخفاض معدل التضخم والبطالة واستعادة اقتصاد البلاد عافيته من تبعات وباء كورونا إلى أزمة المناخ، مواضيع تناولها بايدن تخللها تصفيق حار، تحدث بثقة عن النمو الاقتصادي واعتبره النمو الأفضل من أي بلد آخر على وجه الأرض، فقد تحدث عن 12 مليون فرصة عمل جرى توفيرها، وانخفاض نسبة البطالة 3,4%، لكن تجاهل الأمور الداخلية التي تهم المواطن الأمريكي الخوف من المستقبل، وخاصة أن الحرب الأوكرانية الروسية ما زالت حاضرة وما زال هناك الكثير من ضخ الأموال الأمريكية لاستمرار هذه الحرب على حساب مشاريع خدمية أمريكية، إذ انقسم الشارع إلى مؤيد لدعم هذه الحرب وغالبيتهم من الحزب الديمقراطي الحاكم، ومعارض لضخ هذه الأموال وهم من الحزب الجمهوري.

لم يتطرّق بايدن في خطاب حالة الاتحاد كثيراً إلى السياسات الخارجية، باستثناء الحديث عن الحرب الروسية الأوكرانية وعن الصين، ولم يذكر اسرائيل أو التهديد الايراني، واستعرض بايدن أهم المستجدات على الساحة الدولية، فكانت الأولوية في الخطاب لأوكرانيا متعهداً فيه بمواصلة الدعم العسكري واللوجستي والإنساني لها مهما استغرق الأمر، بحضور السفيرة الأوكرانية، وقال: (غزو بوتين لأوكرانيا يعتبر اختباراً لأمريكا وللعالم، فهل نقف مع المبادئ الأساسية؟ السيادة حق الناس في العيش بحرية هل ندافع عن الديمقراطية معاً؟ وحّدنا الناتو وأقمنا تحالفاً عالمياً ووقفنا ضد عدوان بوتين).

وأيضاً تطرق في خطابه إلى التهديد الذي تشكله الصين على أمريكا والتوتر مع بكين، ولمح إلى إسقاط المنطاد الذي حلق فوق الأراضي الأمريكية، بايدن يرفض التهاون في الدفاع عن مصالح بلاده، ولكنه أعرب عن استعداد الولايات المتحدة الأمريكية للتعاون مع الصين: (أوضحت للرئيس الصيني أننا نسعى للمنافسة وليس الصراع، ولكنني لن أقدم أي اعتذار. أنا ملتزم بالعمل مع الصين، لا تسيئوا فهمنا! إذا هددت الصين سيادتنا سنتصرف لحماية بلادنا وقد فعلنا ذلك).

يأتي الخطاب في الوقت الذي أظهر استطلاعان للرأي أن أكثر من نصف الناخبين يرفضون ترشحه للرئاسة في عام 2024، إلا أن أكبر الرؤساء سناً في تاريخ الولايات المتحدة يأمل أن يوفر له الخطاب دفعاً قوياً نحو ولاية ثانية، فكان صورة عن برنامج حملته القادمة، وأعتقد أن الخيبة حاضرة وخاصة ما يواجه بايدن منذ توليه منصبه من تحديات يصعب مواجهتها تجسدت بالحروب الاقتصادية والطاقية والسيبرانية، تضخم وفقر وجوع، وتراجع مكانة أمريكا الدولية وظهور قوى أخرى منافسة، وعلى المستوى الشخصي يخضع بايدن لتحقيق بسبب احتفاظه بسجلات سرية أثناء عمله كنائب رئيس سابقاً، إضافة إلى حدة الانقسامات والعداءات الحزبية داخل الكونغرس وسط اصطدام الجمهوريين بالديمقراطيين حول الأولويات السياسية، بينما الاقتصاد الأمريكي على المحك، ويبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية تعاني من أزمة زعامات بدأت من دونالد ترامب واستمرت بجو بايدن.

لم يشر بايدن على الإطلاق إلى الزلزال الذي ضرب تركيا وسورية قبل يوم واحد من موعد خطاب حالة الاتحاد والأزمة الإنسانية الناتجة عنه، ورغم مرور عامين على توليه السلطة، تستمر معاناة الشعب السوري من الحصار والعقوبات أحادية الجانب اللاأخلاقية بقانون قيصر، غير القانوني، تغسل أمريكا وجهها أمام ما جرى برفع أو تجميد القانون لمدة 180 يوماً وما عساها سورية المنكوبة فاعلة بهذه الهدنة؟!

إلى أين تمضي بنا الفوالق السياسية وقد بات الصراع على التشكيل الجيولوجي أسرع وأعنف من التشكيلات الجيوسياسية في العالم؟! الوضع على ما يبدو مأساوي وقاتم.

العدد 1104 - 24/4/2024