(صرخات وهمسات) لإنغمار برغمان.. أسئلة الإيمان والمرأة والموت

إبراهيم العريس:

إذا كان قد قيل دائماً عن سينما إنغمار برغمان إنها في جزء كبير منها، سينما المرأة بامتياز، فإن الفيلم الذي حققه المعلم السينمائي السويدي الكبير، عام 1972 بعنوان (صرخات وهمسات) إنما يأتي ليؤكد هذا من دون أي التباس. وإذا كانت سينما برغمان اعتبرت، في معظم إنتاجاتها وعلى مدى يقرب من نصف قرن من الزمن، سينما تشاؤمية تنظر بمأسوية مطلقة إلى المصير الانساني، فإن فيلم (صرخات وهمسات) تجسيد لهذه المقولة. ثم إذا كان من المسلّم به أن سينما برغمان تنتمي إلى ما يمكن اعتباره جمالاً مطلقاً في فن السينما، يقيناً أن هذا الفيلم لا يمكنه أن يكون تعبيراً عن هذا.

قد يرى نقاد كثر أن أفلاماً أخرى لبرغمان، تفوق (صرخات وهمسات) جمالاً، وأن ثمة من بين أفلامه أعمالاً تقدم صوراً للمرأة أكثر عمقاً (مثل (برسونا) على سبيل المثال) أو صوراً للواقع أكثر سوداوية وقسوة (مثل (الصمت)…)، غير أن ما يتميز به كل فيلم من أفلام برغمان إنما هو جانب من هذه النظرة الثلاثية، فيما يمكننا أن نكتشف بسهولة أن في (صرخات وهمسات) الجوانب الثلاثة مجتمعة، واصلة معاً إلى الذروة. ومن هنا يحتل هذا الفيلم في مسار برغمان السينمائي، مكانة على حدة، مكانة تجعله عصياً على المقارنة. بل نكاد تقول هنا إن هذا الفيلم يحتل هذه المكانة ليس فقط في تاريخ سينما برغمان، بل في تاريخ السينما الأوربية. ومع هذا، إن شاهدنا الفيلم لن يفوتنا أن نلاحظ أنه ليس جديداً، أو فريداً، في موضوعه. إنه موضوع نجد مثيلاً له لدى تشيكوف كما لدى وودي آلن، وبالتأكيد لدى إبسن وسترندبرغ، أستاذي برغمان الكبيرين: إنه موضوع الشيخوخة والموت، موضوع تفكك العائلة والعجز عن التواصل بين الأفراد. أما الحبكة، فهي دائمة الحضور أيضاً في أعمال أدبية وفنية كبيرة في القرن العشرين: اللقاء، لمناسبة ما (حزينة في أغلب الأحيان) بين أفراد أسرة واحدة، بعد طول فراق، وما يكشفه مثل هذا اللقاء من صراعات، صارخة أو هامسة، بين الملتقين، ولا سيما من طريق نبش الماضي، أو التفاعل السلبي مع المستقبل. ولعل في إمكاننا أن نقول هنا إن هذه الحبكة وموضوعها، ليسا جديدين حتى بالنسبة إلى سينما برغمان نفسها. فهو دائماً خاض مثل هذه الحكايات، مسقطاً عليها نظراته وهمومه وهواجسه، لكنه هذه المرة يوصل هذا كله إلى ذروة.

إذاً، يدور فيلم (صرخات وهمسات) زمنياً، عند بدايات القرن العشرين، وكأن برغمان يرسم هنا صورة عائلية تمتّ بقرابة إلى عماته أو جدته وأخواتها أو أي شيء من هذا القبيل. أما المكان الذي تدور فيه أحداث الفيلم – ان جاز لنا أن نسميها أحداثاً – فهو دارة ريفية فخمة تقبع وحيدة وسط طبيعة صامتة خلابة. إن كل شيء في الدارة، وفي المحيط الطبيعي لها، يبدو وكأنه يعيش سكوناً أبدياً.. كأن كل شيء موجود هنا منذ الأزل، وسيظل هنا إلى الأبد. والدارة محاطة بحديقة واسعة من الصعب القول إن ثمة، حقاً، من يعتني بها، ومع هذا يشع المكان بألوان مدهشة تغلب عليها خضرة صارمة، فيما يطغى على الفيلم كله، لون أحمر عاتم، هو بالأحرى لون الدماء وقد تخثرت بعض الشيء. ولن يفوتنا هنا أن نذكر، لمناسبة الحديث عن الألوان في هذا الفيلم، أن الاشتغال عليها من قبل برغمان ومصوره سفن نكفست، قد حققت لهذا الأخير جوائز أساسية ورفعت اسمه إلى الذروة. وفي عودة إلى موضوع الفيلم نجد أنفسنا أمام ما يمكن أن نسميه دراما عائلية أطرافها أربع نساء، كما يليق بفيلم نسائي لانغمار برغمان أن يكون.

محور الفيلم، من بين النساء الأربع هي آغنس (وقامت بالدور بشكل رائع – طبعاً – هارييت أندرسون، التي كانت، في الحياة – كما حال بعض زميلاتها الأخريات في الفيلم نفسه – واحدة من نساء برغمان الذي امتلأت حياته عشقاً للنساء واقتراناً بهن، فجمع في (صرخات وهمسات) بين بعضهن. وآغنس هذه هي صاحبة الدارة التي – وحدها من دون أخواتها – بقيت تعيش فيها بعد موت الوالدين. لقد رفضت آغنس، التي ولدت في هذه الدارة، أن تغادرها أبداً. صارت جزءاً من المكان الذي أمضت فيه حياتها بكل هدوء وتواضع، من دون أن ترغب أبداً حتى في أن يلحظ وجودها أحد. وغني عن القول، والحال هكذا، أن آغنس لم تترك مجالاً لأي رجل كي يتسلل إلى قلبها أو إلى دارتها. بالنسبة إليها كان الحب سراً لا يجوز لأحد أن يسبر أغواره، أو حتى أن يعرف أو لا يعرف ما إذا كان – أصلاً – موجوداً. واليوم، وقد صارت آغنس في حوإلى السابعة والثلاثين من عمرها، ها هي ذي اليوم تستعد لمغادرة هذا العالم، بعد أن وصل سرطان أصابها إلى مرحلته النهائية. وكان من الطبيعي لآغنس أن تختار المغادرة بكل هدوء: إنها راغبة في أن يكون موتها هادئاً هدوء حياتها. ولذا نراها لا تشكو، ولا تقر أولئك الذين يرون أن الله والأقدار قد ظلموها.

مقابل آغنس، هناك كارين (أنغريد تولين) التي تصغرها بعامين.. كارين كانت تزوجت رجلاً ثرياً وتعيش معه في منطقة أخرى، رغم أنها أدركت باكراً ان زواجها كان فاشلاً.. بخاصة أن زوجها الذي يكبرها بعشرين عاماً، يثير نفورها بشكل دائم. ومع هذا تبدو دائماً أنيقة واثقة من نفسها، بل متعجرفة وعصية على التواصل مع الآخرين. ناهيك بأن إخلاصها لفكرة الزواج لا تشوبه شائبة، غير أن هذا كله ليس إلا في الظاهر، ذلك أن أول احتكاك حقيقي بها يكشف حقيقة ضعفها وكراهيتها لزوجها، وهما أمران لا يفارقانها على أية حال في أحلامها التي تعذبها، إذ تتحول بشكل متواصل إلى كوابيس. أما الأخت الثالثة والأصغر، فهي ماريا (لين أولمان) الثرية أيضاً التي تبدو سعيدة في زواجها بشاب مرح وكريم ومحب للحياة. ولماريا ابنة في الخامسة أفسدتها تربيتها المدللة، فصارت شبيهة بأمها: فضولية، مليئة بالأحاسيس. أما ماريا فإنها إلى هذا تبدو كثيرة العناية بجمالها، حريصة على تلبية رغباتها من كل الأنواع. ومقابل هؤلاء الشقيقات الثلاث هناك آنا، الخادمة، التي تمضي وقتها تحنو على آغنس حنوّ أمّ حقيقية، فتبدو الكائن الأقرب إليها، والذي يغمرها بصلواته.

إذاً، وسط هذه الأجواء المشحونة بالموت والوحدة، ووسط هذا المكان المنعزل الخلاب، تدور المأساة التي تقوم في احتضار آغنس وموتها. وهذان يجعلان من الفيلم عملاً جنائزياً حقيقياً، فكل ما يحدث هنا إنما هو مراقبة الأختين أختهما وهي تموت ببطء، ومراقبة الثلاث آنا وهي تحاول، على الأقل، التخفيف من ألم آغنس والدفاع عن روحها من موقع ايماني مدهش. فآنا هي الوحيدة هنا التي تخاطب الأقدار، الوحيدة التي تمسك منطق الفيلم وأسئلته القلقة، إنما من منطلق انساني.

في هذا الفيلم القلق والمفعم بالأسئلة الوجودية، أوصل إنغمار برغمان ( – 2007)، سينماه إلى ذروة جديدة، حتى وإن كان النقاد – وكعادتهم – أعلنوا في البداية موقفاً معادياً من الفيلم زاعمين أن شكله الجميل الرائع قد طغى عليه ليغطي (خلوه من الموضوع). لكننا نعرف أن هؤلاء النقاد سيعودون لاحقاً ويدخلون (صرخات وهمسات) في أروقة السينما العظيمة، ويقولون إن برغمان يبدو فيه وكأنه لخص أسئلته التي دائماً ما كان يطرحها على نفسه، كما لخص فيه علاقته بالمرأة والايمان والإنسان والموت والحياة، وغيرها من العلاقات التي ملأت دائماً أفلاماً له كبرى مثل (الفريز البري) و(متناولو القربان) و (الثلاثية) و (صيف مع مونيكا) وغيرها.

)الحياة)

العدد 1105 - 01/5/2024