هل يحفل الزمن بمن يضيعه؟

يونس صالح:

يغري الواقع العربي الآن باليأس، ويكاد يهون معه الانتحار الجماعي سبيلاً للخلاص!

التاريخ العربي ليس إلا جزءاً من التاريخ البشري العام، والتاريخ البشري العام ليس في أحد وجوهه إلا قصة تحرر من الطغيان، يتساوى في ذلك العرب مع غيرهم من الأمم والشعوب. وتاريخ الطغيان في أوربا ليس ببعيد، فأوربا ستحتفل بمرور نحو ثمانين عاماً على سقوط الطغيان النازي. كما أن سقوط عدد من الديكتاتوريات في مختلف البلدان النامية ليس ببعيد أيضاً. المسألة هي أن التطور التاريخي البشري على مسار التحرر من الطغيان هو عملية غير متزامنة، فهي في بعض الأمم والمناطق قطعت مرحلة متقدمة، بينما مازالت لظروف تاريخية مفهومة تتعثر على بدايات الطريق في مناطق أخرى ومنها البلدان العربية، وحتى داخل تلك البلدان، فثمة تفاوت من بلد إلى آخر في درجات الطغيان والحرية القائمة.

ومشكلة البشرية هي أن الحرية ليست لدى المتمتعين بها ذات محتوى أخلاقي، فالسلوك السياسي الغربي يعتبر الحرية إنجازاً حضارياً خاصاً بهم، وحرية الذات لا تمنع من استعباد الآخر واستغلاله. ومن هنا فإن محاولة الذات الشرقية للتحرر تصطدم برغبة الآخر الغربي في توسيع مجال حركته الحرة بأي ثمن. إلا أن الإنسان العربي مضروب في سعيه نحو الحرية من أكثر من جهة، فهو يصطدم بطغيان السلطة الحاكمة في بلده، ويصطدم بالأطماع الخارجية في أرضه وموارده، ويصطدم أيضاً بالقوة الاجتماعية الجاهلة لحركة التاريخ. ولقد كان المثقفون على مر العصور هدفاً للرصاص وهدفاً للمتطرفين في بلادهم، وكانت كلمة ثقافة تعني أن يضع غوبلز وزير دعاية هتلر يده على مسدسه، وكانت المكارثية في أمريكا قد وضعت أكثر من أربعة ملايين شخص على لوائحها السوداء ممنوعين من العمل داخل الولايات المتحدة، مروراً بتلك الفترات الحالكة من الإرهاب النازي وحتى الإرهاب الصهيوني وانتهاء بقمع الأنظمة الحاكمة والأصوليين الذين يرون في قمع المثقفين واغتيالهم أحد الأسباب التي ستصل بهم سريعاً إلى الحكم.

المثقفون دائماً.. المثقفون لماذا؟

إن رصاصة في الدماغ تقضي مباشرة على حياة الجسد، فإن كان المثقفون في أي كيان اجتماعي هم بمثابة الدماغ في الجسد، فلا عجب أن الساعين إلى تقويض بنية اجتماعية معينة أو إضعافها بغية السيطرة عليها، لا عجب أنهم يوجهون ضرباتهم إلى صانعي الثقافي في ذلك الكيان. فالثقافة روح الأمة- أي أمة- وعنوان هويتها. ومن هنا كان من الطبيعي لأي حركة إيديولوجية عنيفة تستهدف ليس فقط الاستيلاء على السلطة السياسية في المجتمع، وإنما أيضاً تغيير المسار الحضاري من وجهة إلى الوجهة المعاكسة، من الطبيعي أن تلجأ مثل هذه الحركات إلى شن الحرب على منتجي الثقافة المستهدفة في المجتمع، وهذا ما حدث ويحدث في عدد من بلداننا العربية.

إن الثقافة وإن كانت دائماً الضحية الأولى للعنف والإرهاب، إلا أنها أيضاً الملجأ الأخير منه والسلاح الأنجع على المدى الطويل في محاربته. ولعلنا نقول إن الثقافة إذا ما شيدت على أسس سليمة قوية كانت الوقاية التي تغني عن العلاج.

ومن المعروف أن الثقافة الخالية من الجدل ومن التباين بين الأفكار والاتجاهات هي حياة راكدة خاملة لا تؤدي إلا إلى الركود، وفي هذا السياق تثار في بلداننا مسألة العلمانية، التي تتعرض لهجوم شديد من قبل الأصولية السياسية بمختلف أشكالها التي تعمل على فرض أيديولوجيتها التي لا تتعامل مع مجريات الأمور في العالم المعاصر بشكل يلائم العصر، الذي يمنح الأهمية لحرية الفكر والتقدم والعلوم والتطور التكنولوجي. ويعود السبب في ذلك إلى أن العلمانية هي منهج فكر وحياة ظهر أو تفتق تلقائياً وتدريجياً من حركة الفكر البشري على مر العصور التاريخية. كانت بداياته في أوربا مع عصر النهضة وذروته الفكرية في عصر التنوير في القرن الثامن عشر، وثمار الثورة الفرنسية التي أرست مبادئ الحرية السياسية وتحرير البحث العلمي، الذي أثمر الثورة الصناعية وكل تداعياتها من نمو اقتصادي واجتماعي، وإذا كانت العلمانية تلخص في عبارة، فهي أن أمور الدنيا والمعاش البشري تحكم فيها قوانين الطبيعة والمجتمع وليس فروض الغيب أو ما وراء الطبيعة. هذا المبدأ هو الذي يبقينا في موضع أقرب إلى العصور الوسطى حتى اليوم.

إن تاريخ أوربا لا يختلف جوهرياً عن تاريخنا، لقد مروا بما مررنا به من مراحل، ولكنهم نجحوا في الانفلات من الأسر، ومضوا قدماً، أما نحن فقد صارت أصفادنا أساور من الذهب عندنا، نموت ولا نتخلى عنها. والعلمانية يصورها أعداؤها أنها إلحاد، وهي ليست من ذلك في شيء بالضرورة، إنما هي فقط تقول إن الدين محله السريرة الفردية وليس المعترك الاجتماعي، وهذا أمر من شأنه إعلاء الدين على أن يكون عرضة للمتغيرات اليومية ومجالاً للتفسير والتفسير المضاد، ومسرحاً للصراع كلما عرض للناس عارض في أمور معاشهم.

إن العالم من حولنا في حالة تطور فكري هائل قائم على قاعدة علمية وتكنولوجية، وعندما ننظر إلى أحوالنا نجد أننا على وشك أن نصبح خارج التاريخ. هذا بالضبط حالنا، فنحن مرتمون خارج الزمن، بينما يمضي تياره غير حافل بنا، وهل يحفل الزمن بمن يضيّعه؟!

 

العدد 1104 - 24/4/2024