محاولة في اكتشاف الحياة

حسين خليفة:

عمر الإنسان كتاب مغلق، مجهولٌ عددُ صفحاته.

هذه ليست معلومة، إنها حقيقة بديهية.

هذه الصفحات التي بقيت بيضاء لم تُكتب بعد، يحق لنا، بل يجب علينا، أن نسعى لملئها بما تيسّر من نفع لنا وللآخرين، من علم ومعرفة، من أعمال حسنة ومواقفَ صحيحةٍ صادقة، من انحياز للحق والحقيقة، للمظلومين ضد الظالمين.

تراودنا هنا بعض الأسئلة الاستفهامية والتعجبية في آن.

*ما نفع إنسان بلا عمل؟!

العمل ليس بصفته مصدراً للرزق، على أهمية هذه الصفة وضرورتها، بل بوصفه تأكيداً لفعّاليته وكرامته ووجوده البشري ضمن مجموعة بشرية.

أول ما تتعرف إلى إنسان، أو تسمع أحداً يتحدث عن شخص ما، يكون السؤال الضروري: ماذا يعمل؟ ما هو دوره في الحياة والمجتمع؟ أين مكانه في معادلات الحياة المعقدة والمتداخلة؟ كل هذه الأسئلة وغيرها الكثير يختصرها سؤال: ما هو عمله؟!

وفي الذكر الحكيم: وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون.

وفي جميع الكتب السماوية والأديان والفلسفات ثمّة تقديس للعمل كقيمة إنسانية عليا.

إنسان بلا عمل هو كائن هلامي لا وجود ولا فعالية له، حتى لا نقول إنسان ميت.

والعمل لا ينحصر بالعمل المأجور طبعاً، فمن يشرف على أبوين عجوزين ويقوم على رعايتهما أو رعاية أحدهما يعمل، بل إنه من أقدس الأعمال، وكذا رعاية الأطفال، الكتابة، الفن، العمل الخيري، …الخ.

*ما نفع إنسان بلا أصدقاء؟!

هذا السؤال قبل انتشار وسائل التواصل وبعده، بل بعده بالدرجة الأولى، لأن الصداقة على الفيسبوك أو المتابعة على الإنستغرام أو التلغرام أو التويتر ليست بالضرورة صداقة حقيقية، بل هي صداقة إلكترونية، صداقة لا رصيد لها في الواقع إلاّ ما ندر، أما الصداقة التي كانت قبل انتشار هذه الوسائل فقد كانت مبنية على التقارب الروحي والفكري والأخلاقي، ومساحة النفاق فيها أضيق ما يمكن.

هناك فعلاً أشخاص لا أصدقاء لهم، والصديق يبدأ من أقرب الناس، من أمك وأبيك، من إخوتك وأقربائك، ثم من وسطك الاجتماعي، والآن من قائمة أصدقاء يظهرون على شاشة مضيئة لا تلبث أن تنطفئ مع انقطاع الكهرباء أو انتهاء شحن اللابتوب أو الموبايل، أو بعد ضجرك من هذه الكلمات الباردة التي تتبادلونها على الشاشات فيما تشارفون على النوم أو تكونون في سهرة أو مناسبة أو طريق.

ما قيمة حياة إنسان بلا أنس؟ بلا أصدقاء ومُحبين يؤنسون وحشة العمر، يسألون عنه عندما يغيب، عندما يمرض، عندما يموت له قريب أو حبيب، ويشاركونه أفراحه القليلة في هذا الزمن الأسود، بل يخلقون له ومعه لحظات فرح تعطي للعمر جماله وألوانه الزاهية في وجه السواد المخيم على أعمارنا، في ظل هذا (اللوياثان) الأخطبوطي الممتد فينا وعلى حياتنا.

الأصدقاء هم من يجعلوننا نكتشف عبرهم أو معهم عوالم جديدة، كتباً وأفلاماً لم نكن قد سمعنا بها، أشخاصاً لم نكن لنعثر عليهم لولا هؤلاء الأصدقاء والصديقات طبعاً.

*ما نفع إنسان بلا حب؟!

الأصدقاء والأقارب والأحباب تختصرهم وتكمّلهم أحياناً امرأة من برج الحب بالنسبة لنا نحن الرجال الجاحدين، أو رجل من ذاك البرج بالنسبة للنساء، تخطف أنظارك وقلبك وروحك واهتمامك، فتراها هي وحدها العالم والناس والشجر والماء والدفء والأغاني، وتمضي لترسم معها حياة لا تعرف الرتابة والتعب، تنجحان أو تفشلان، لكن هذه الومضات القصيرة بينكما هي أجمل ما في العمر، هي الحياة كلها.

كم هو فقير وفارغ ومثير للشفقة فعلاً ذلك الإنسان الذي لم يعش تجربة حبّ على الأقل في حياته، أقصد لم يعش الحبّ مع حبيب/ة؟!!

أتذكّر هنا حكاية اعتقد أنها من حكايات الشاعر الجميل رسول حمزاتوف صاحب المؤلفات الكثيرة ومنها رائعته (داغستان بلدي)، تقول الحكاية إنّ رجلاً مرَّ بقرية فكان أول ما يصادف المسافر، كالعادة، مقبرة القرية، نظر إلى شواهد القبور فوجد أنّ أعمار أصحابها لا تتجاوز سنواتٍ عدّة وبعضهم أياماً فقط، كما هو مكتوب على الشاهدة.

سأل أحدَهم: لماذا تبدو أعمار سكان هذه القرية قصيرة إلى هذا الحدّ؟!

أجاب الرجل: نحن لا نكتب على شاهدة القبر إلاّ عدد السنوات التي أحبَّ فيها الإنسان.

نعم، إنّ عمرك هو الوقت الذي أمضيته مُحباً عاشقاً، وما تبقى هو (كمالة عدد) كما يقال.

ويعترضنا سؤال آخر:

*ما نفع إنسان بلا أعداء؟!

نعم، الإنسان الذي لا أعداء له هو إنسان ناقص، إنسان يبلع صوته مراراً حتى لا (يكسب) عدواً بسبب كلمة حق تفضح جوره وعدوانه، أو خطأه على الأقل.

الإنسان بلا أعداء رقمٌ مهمل، مرورٌ باهت في هذه الحياة القصيرة، كتابه مكتوب بحبر رمادي لا يُقرأ، وهو ليس سعيداً بالضرورة، وإن بدا أنه مرتاح أحياناً إذ لا أعداء له. ونعود مرّة أخرى إلى حمزاتوف الذي يقول: (لا تخبّئ أفكارك. إذا خبأتها فستنسى لاحقاً أين وضعتها).

إنّ من يكبت رأيه طلباً للسلامة وراحة البال خصوصاً في البيئات الخانقة للاختلاف مثل الأنظمة الاستبدادية والمجتمعات المتخلفة المحكومة بالماضي، يختنق به أخيراً.

الفكرة التي يطرحها عالم الاجتماع السويدي بيير يوهانسون (نحن نعلم جيداً أننا لن نستطيع أن نضيف وقتاً إلى حياتنا، ولكننا يمكن أن نضيف حياة إلى وقتنا)، تؤشّر من ضمن ما تؤشّر إليه، إلى هذه النقاط أو الأسئلة كما أرى. إنه يشير إلى إمكانية أن نجعل أيامنا القصيرة في هذه الحياة حافلة بالحب، بالعمل، بالعطاء المتبادل مع الناس، مع الأهل، مع الأصدقاء، مع الحبيب الذي يختصر كل ما سبق، ويُعزّزه، ولا يلغيه طبعاً.

العدد 1105 - 01/5/2024