تركيا من مهام وظيفية استراتيجية إلى القشة الأخيرة

إبراهيم الحامد:

بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، وتوجهت دول الوفاق المنتصرة في الحرب آنذاك لإنهاء المهام الوظيفية للإمبراطورية الإقطاعية العثمانية، التي كانت  من دول المركز المهزومة، والعمل على تقسيم تركتها وإقامة دول قومية محلها، ثم تعيين سلطات محلية تقوم بمهام وظيفية لخدمة مصالح قوى الرأسمالية الغربية الناشئة آنذاك في كل من بريطانيا وفرنسا وأمريكا وإيطاليا، التي قادت الاستعمار الحديث ونصبت نفسها وصية على تلك الدول، ووقعت على اتفاقية سايكس بيكو لتوزيع مناطق النفوذ فيما بينها، وأقرت بوعد بلفور المشؤوم، وقامت بالتدخل العسكري المباشر وفرض نفسها كقوى استعمارية.

وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وانتصار الاتحاد السوفياتي مع قوى التحالف ضد المحور، ودخوله كعضو مؤسس لمجلس الأمن الدولي يمتلك حق الفيتو، واستخدامه هذا الحق في مساندة الشعوب المستعمرة في تقرير مصيرها ونيل استقلالها، وبعد أن نالت تلك الدول استقلالها، وجلت عنها القوى الاستعمارية الغربية، تاركةً خلفها قوى إقليمية وسلطات محلية، وفي مقدمتها الكيان الصهيوني الذي أقيم على أرض الشعب الفلسطيني، والدولة التركية التي أقيمت على أرض الشعب الأرمني والكردي والآشوري والإغريقي والأراضي السورية، وإيران الشاهنشاهية التي ضمت إليها أجزاء من الوطن العربي وجزءاً من كردستان، إضافةً إلى السلطات المحلية في العديد من الدول العربية، التي أوكلت إليها خدمة مصالح النظام الرأسمالي، وأولها مكافحة الفكر الشيوعي ومنع الاتحاد السوفياتي من مدّ  نفوذه. وعلى مرّ الزمن ومع تتالي انقلابات العسكرية والحكومات الديكتاتورية تشكلت ما يسمى اليوم بالدولة العميقة في جميع تلك الدول، وبالرغم من المتغيرات الني حدثت في الكثير منها لصالح الوطني، إلا أنه مازال هناك من يقوم بمهام وظيفية تخدم مصالح الغرب الرأسمالي إلى يومنا هذا.

وكانت (دولة إسرائيل) والدولة التركية وإيران الشاهنشاهية والعديد من السلطات العربية، كانت تقوم بوظيفة محاربة ما سمي عند الغرب (الخطر الشيوعي) وجميع حركات التحرر الوطني والاجتماعي التقدمي في الشرق الأوسط وخاصة في الدول العربية، والوقوف بوجه امتداد نفوذ الاتحاد السوفياتي.

وبعد قيام الثورة الإسلامية التي أخرجت إيران بنظام ثيوقراطي، وأعلنت عداءها لإسرائيل وأمريكا، ظلت كل من إسرائيل وتركيا تقوم بالمهام الوظيفية لخدمة مصالح النظام الرأسمالي بقيادة أمريكا كقطب وحيد يريد السيطرة على العالم، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.

ولقد لعبت الدولة التركية دوراً مهماً منذ تأسيسها عام ١٩٢٣بقيادة كمال أتاتورك الذي قاد حزب الاتحاد والترقي لمحاربة السلطنة العثمانية إلى جانب القوات البريطانية والفرنسية، وانضمت فيما بعد إلى حلف الناتو كدولة علمانية، كما سعت للانضمام إلى الاتحاد الأوربي بعد تشكيله، وكان يرفض قبولها لأسباب تدعيها قيادة الاتحاد الأوربي، ومنها قمع الحريات وقمع الشعوب التي تشاركها العيش وإنكار حقوقها وبخاصة الشعب الكردي، بالرغم من أن جميع دول الغرب والناتو تعتبر من يطالبون بحق الشعب الكردي في تركيا بأنها قوى إرهابية، وشاركت هذه الدول في اعتقال زعيمهم عبد الله أوجلان وإيداعه السجن منذ شباط عام ١٩٩٩، واستمر الحال هذه حتى جيء بحزب العدالة والتنمية للسلطة وانقلاب رجب طيب أردوغان على رئيسه عبد الله غول وترأس مجلس الوزراء، ثم قام بتغيير الدستور ونقل تركيا من نظام برلماني إلى نظام رئاسي، ومن العلمانية إلى الثيوقراطية، و تسلم زمام قيادة الدولة التركية وقيادة حزب العدالة والتنمية، ووحّد السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية تحت إمرته بقيادة حزب العدالة والتنمية الإسلامي (السني) إضافة إلى قمع واعتقال الآلاف من معارضيه والبرلمانيين الكرد المنتخبين وإيداعهم السجون دون اعتراض الغرب والاتحاد الأوربي على ذلك، وهذا ما يؤكد تكليف سلطة العدالة والتنمية بمهام وظيفية لتنفيذ مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي رسمته الدوائر الاستراتيجية الأمريكية واستخباراتها منذ نهاية السبعينات من القرن العشرين.

وقد لعب نظام العدالة والتنمية التركية بقيادة أردوغان دوراً فاعلاً، فقد بدأ ببناء مخيمات لاستقبال اللاجئين داخل تركيا وبموازاة الحدود السورية الشمالية، ومهد للتهجير القسري لسكان الشمال السوري إليها، بترغيب المقربين منه من جهة وترهيب الآخرين بنشر قوى ومرتزقته من الإرهابيين الذين حولوا الحراك الشعبي السوري إلى حرب أتت على الأخضر واليابس فيها من جهة أخرى، ونقلت  ما يمكن نقله من المعامل والبنى التحتية إلى تركيا وتدمير ما لا يمكن نقله، واحتضن أردوغان ما سمّي بـ (المعارضة السورية) والميليشيات المسلحة من المرتزقة وقوى مصنفة دولياً بقائمة الإرهاب، ظناً منه أنه سيقود الإسلام السني بقيادة منظمة الإخوان المسلمين العالمية، والمسماة من قبل الغرب بـ(الإسلام المعتدل) في الشرق الأوسط الجديد، وكان من المفترض استلام الإخوان السلطات في الدول العربية التي اجتاحتها (ثورات الربيع العربي) ولكنها فشلت رغم استلامها السلطات في عدد منها، وبفشل تلك الخطة الأساسية لجأت سلطة العدالة والتنمية التركية إلى الخطة التالية بإشراك مرتزقتها المسلحين مما سمي بـ(الجيش الحر) في كل من ليبيا وتونس واليمن وأذربيجان ومصر وغيرها لدعم قوى الإخوان المسلمين فيها، إضافة إلى الاجتياح العسكري واحتلال أجزاء مهمة من الشمال السوري لدعم مواليه من السوريين، و بدأ باستخدام ملف  اللاجئين بوجه الاتحاد الأوربي من أجل الحصول على المال من جهة لدعم اقتصاده المنهار من جهة، ومن جهة أخرى لإقناع التحالف الدولي بقيادة أمريكا_ المحتل لشمال وشمال شرقي سورية_ بإنشاء حزام سياسي تحت وصايته على طول الحدود السورية الشمالية، وبعمق ٣٠ كم داخل الأراضي السورية، تحت مسمى منطقة آمنة في الشمال السوري، وذلك بغرض تنفيذ التغيير الديمغرافي في المنطقة، من خلال جلب مرتزقته ومواليه السوريين إليها ومحو وطمس آثار الشعب الكردي الذي هم أغلب سكان تلك المنطقة، لأن أردوغان يتخوف من حصولهم على مكتسبات وحقوق يراها النظام التركي خطراً على أمنه (القومي)، ويبرر أردوغان احتلاله للأراضي السورية حالياً وما يبرر به اجتياحه المرتقب لما تبقى من الشمال السوري  باتفاقية أضنه، التي عقدت بين تركيا وسورية في عام ١٩٩٨، والتي تجيز لتدخل تركيا بعمق ٥ كم في الأراضي السورية بذريعة حماية أمنها القومي من (خطر حزب العمال الكردستاني)، بعد أن فشل في كل ما خطط له سابقاً، والآن يستجدي كلّاً من سورية والعراق وإيران لمساعدته فيما يسميه هو محاربة (الخطر الكردي) على أمنهم القومي، وللأسف يكرره المغرضون والموالون لنظام التركي هنا وهناك، وهدف أردوغان من ورقة التوت الأخيرة هذه، هو الحفاظ ما  أمكن على ما تبقى من ماء الوجه في الداخل التركي، وهو يقترب من موعد الانتخابات.

ولا شك أن لدى حكومات تلك الدول هاجس القضية الكردية، ويتهم الشعب الكردي فيها دوماً بالرغبة في الانفصال، ومن الأجدى لحكومات  تلك الدول أن تتحاور كل من طرفها مع الشعب الكردي الذي يشاركهم العيش منذ آلاف السنين للوصول إلى حلول ترضي الطرفين، ومنح الشعب الكردي لديها الحقوق المشروعة دستورياً وفي إطار وحدة تلك الدول، فيغلق بذلك  الباب للتدخل الخارجي الذي يستغل دوماً هذه الورقة، وتقطع مبررات النظام التركي التي تخرق سيادتها وتجتاحها عسكرياً بهذا الشأن، و لترسل لتركيا رسالة مفادها إن هذه القضية شأن داخلي لا حق لتركيا التدخل فيها، وما على النظام التركي إلا معالجة القضية الكردية عندها داخلياً وبالطرق السلمية، حيث يوجد لديها أكثر من عشرين مليون نسمة من الشعب الكردي الذي يعيش على أرضه التاريخية، وبذلك سيكون أول خطوة في إعادة الأمن والاستقرار والسلام لمنطقة الشرق الأوسط، إلى جانب حل قضية شعب فلسطين وفق الشرعية الدولية وقراراتها، وفي الوقت ذاته وانطلاقاً من مشاعري القومية والوطنية كشخص كردي سوري وشيوعي، أهيب بكل قادة الأحزاب والمنظمات الكردية عموماً، والسورية منها خصوصاً، أن تتجه لفك الارتباط مع القوى الخارجية وخاصة الأمريكية، والعمل والحوار مع حكومات الدول التي يشاركون العيش مع شعوبها مهما كانت نوع تلك الحكومات والسلطات، وذلك للحصول على حقوقهم المشروعة دستورياً، لأن حصولهم على تلك الحقوق وإن كانت غير ملبية لطموحاتهم، ستكون أفضل مما يوعدون بها من قبل القوى الخارجية بكثير ومهما عظمت، لأن تلك القوى راحلة آجلاً أم عاجلاً والشعوب التي يشاركونها العيش هم الباقون .

وإضافة إلى ما سبق من استخدام النظام التركي من أوراق، ها هو ذا يستخدم ورقة موقع تركيا الاستراتيجي ما بين روسيا والغرب، ومهامها في الحرب الأوكرانية الروسية إلى جانب حلف الناتو ويستغل طلب دخول السويد وفنلندا لحلف الناتو، ويضغط بها على أميركا لفك الارتباط مع قسد في الشمال السوري، فهو بذلك يسعى لكسب دور جديد له ما فوق الإقليمي داخل خريطة القوى العظمى التي يتوقع ظهورها من جهة، ويقوي موقعه داخل تركيا المقبلة على الانتخابات الرئاسية في منتصف هذا العام الذي يصادف الذكرى المئوية لتأسيس الدولة التركية من جهة أخرى، وهو يستخدم ورقة المصالحة مع الدولة السورية أيضاً، ليهدد  بها أمريكا الرافضة لهذه المصالحة، وفي الوقت ذاته يضرب  بها روسيا، والهدف من ذلك إنهاء الوجود الكردي في شمال وشمال شرق سوريا وحرمانه من أي مكاسب قد يحققها في التسويات السياسية السورية المقبلة.

ولا شك في أهمية المصالحة  من منظور ضرورة وأهمية حسن العلاقات فيما بين  دول الجوار، ولكن يجب أن لا تكون على حساب دولة لصالح الأخرى، وأن لا تكون على حساب أي مكون من مكونات الشعب السوري، على أن تحافظ على السيادة والاستقلال والمصالح الوطنية العليا للدولة السورية وثوابتها الوطنية، وأولها الانسحاب الكامل للجيش التركي ومرتزقته وداعميه من كامل الأراضي السورية، وبذلك تبين تركيا حسن النية ، فقد بات من المعروف أن النظام التركي بقيادة أردوغان، يسعى جاهداً من وراء هذه المصالحة  ليُكسب وكلاءه ومواليه من (المعارضة السورية) مكاسب ونفوذاً سياسياً في التسوية السياسية للأزمة السورية القادمة، وهي القشة الأخيرة لأردوغان يحافظ بها على مهامه الوظيفية من جهة، وينقذ بها نفسه من لجة الأزمات الداخلية التركية التي تشكلت في عهده، فمن الذي سيؤمن لأردوغان هذه القشة؟ وعلى حساب من سيكون ذلك؟ أم ستطول هذه المناورات لحين انتهاء الانتخابات التركية، وتطفو على سطح الأزمة من جديد مخرجات جديدة تقلب كل الموازين، وتعيد ترتيب أوراق اللعب وفق الأوضاع الجديدة وتستمر خلالها شعوب المنطقة بدفع الضريبة قتلاً وتدميراً وجوعاً وتهجيراً؟!

أم سينتصر الحوار السوري السوري دون تدخل أي قوى خارجية -إلا أصدقاء الدولة السورية والشعب السوري الحقيقيين والذين يحرصون على سيادة سورية واستقلالها وثوابتها الوطنية- بصفة مراقب لا أكثر. وهذا ما يأمله كل مكونات الشعب السوري الوطني وقواها السياسية دون استثناء.

العدد 1105 - 01/5/2024