الزواج المستحيل.. هل نسير نحو الانقراض؟!

حسين خليفة:

نعم، لا مفرَّ منه، كما الموت، أو لا عاصم منه كما الطوفان الكبير.

ذلك هو الزواج، مهما حاولتَ النأي بالنفس عنه أو تأخيره، فسيأتيكَ بغتةً أو غيلة أو عن سابق إصرار وتصور ولو كنتَ في بروج مشيّدة.. والمخاطب هنا ذكرٌ وأنثى.

قبل هذه الكارثة الوطنية العظمى كان الوضع بالنسبة لموضوع الزواج كما في الحروب الباردة، هدوء حذر، تتخلّله رشقات متبادلة، لكن الحرب الحقيقية الحاسمة التي تُعرف نهايتها ونتائجها وتطوى صفحتها، لا تأتي، فيتزوج المرء وينجب ويعيش عمره في هذه الحرب الباردة حتى يضع أوزاره ـ هو وليست الحرب ـ ويرحل إلى الرفيق الأعلى.

الآن وقد حوّلوا الوطن إلى فتات وطن، والحرب إلى حروب بأشكال مختلفة، مع محتلين وغزاة وميليشيات بأسماء وأعلام وشعارات مختلفة.

الآن وقد صار مجرّد الاستمرار بالعيش ـ وليس بالحياة ـ اجتراح معجزة حقيقية بعد أن وصلت الحالة الاقتصادية إلى حضيض الحضيض.

يكفي أن نعرف أن الحد الأدنى لتستطيع عائلة من خمسة أشخاص الاستمرار في العيش (أي أن لا يموتوا جوعاً) هو بحدود ثلاثة ملايين ليرة لحظة إعداد هذه المادة!!

الآن ـ نقول ـ ما الجنون الذي يدفع بشاب وشابّة إلى اتخاذ قرار العيش معاً في بيت الزوجية، وخوض حربهما الصغيرة المضنية واليائسة؟!

نعم، إنه ضرب من ضروب الجنون، لكنه جنون الحياة في وجه عبثية الموت وتمدّده، جنون الحب في وجه وحش الكراهية المخيّم على بلادنا ومجتمعنا بعد كل هذه الدماء والتدمير.

الزواج في سورية أصبح أنواعاً وحالات:

ملايين الشباب والشابّات المهاجرين الهاربين من جحيم القتل والتدمير والجوع يصنعون نمطهم الخاص بهم، كلٌّ على حدة، فالبعض يستقدم شريك/ة العمر من بلد المنشأ إلى حيث حصل على الإقامة والعيش الكريم كإنسان له احترامه وكرامته، ليؤسسا معاً عائلتهما الجديدة في البلد الجديد، وينجبا أطفالاً يحملون جنسية البلد الجديد بلا رشوة ولا وساطات، ثم يصبح تسمية الأجيال التي ستأتي من هذه الزيجات: (من أصول سورية).

وقد عرفت سورية هذه الحالات خلال الهجرات الكبيرة إبان (السفر برلك) والاحتلال العثماني سيئ الصيت، الذي زجّ ببلادنا وشبابنا في أتون حرب الرجل المريض مع حلفائه في الحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918)، ونشر الموت والفقر والمجاعة في هذه الربوع، فنمت ظاهرة الهجرات والعيش والزواج والإنجاب في بلاد المهجر، وقد عرفنا قادة ومبدعين ومشاهير من أصول سورية ممّن ولدوا في تلك المهاجر.

الآن يعيد التاريخ نفسه بشكل أفظع بكثير ممّا قبل، فالمحتلون كُثُرْ منهم من جلبهم أبناء البلد ومنهم أغراب، والحروب متعدّدة وشاسعة، والموت والجوع يعضّان الناس بأنيابهما، فأين المفرّ؟

تُقيّد حالات الزواج غيابياً في سجلات الأحوال الشخصية بحضور وكلاء عن العروسين أو عن أحدهما، ثم يجتمعان في بيتهما الجديد ووطنهما الجديد قاطعين آخر خيط حقيقي مع وطن أحرقته الحرب، ولم يسمح لأحد بإطفاء الحريق.

هؤلاء لا مشكلة في زواجهم من حيث الظروف المعيشية وحتى تكاليف الزواج وتبعاته، فالدول الإمبريالية التي لاذ بها السوريون الهاربون تؤمّن لهم ولأولادهم حدّاً مقبولاً من العيش الكريم، وإمكانات كبيرة للاندماج في مجتمعاتهم الجديدة، فيما يعاملهم جيراننا العرب (لبنان والأردن) كوباء لا بدَّ من التخلّص منه، وهذه إحدى تناقضات فكرة العروبة من أساسها.

أما المصيبة التي تقترن بالزواج فهي عند العريس الباقي على قيد الوطن أو في قيده، إذ أينما وليت وجهك تحاصرك التكاليف الخيالية.

لنترك حلم امتلاك منزل، فذلك سراب عقيم لشاب في مقتبل العمر حتى لو وفّر دخله كل العمر، باستثناء حالات الميراث أو بيت العائلة، ولنلتفت إلى كلفة الأثاث الضروري (براد، غسالة، غرفة نوم، فرش ولحف ووسائد وأدوات مطبخ وغاز وتوابعه ومدافئ وتلفزيون على أمل أن تصبح الكهرباء متاحة يوما لمشاهدته)… الخ.

إنّ حساباً بسيطاً لأدنى النوعيات من هذه الأشياء الضرورية يصبح أكثر من خمسين مليون ليرة سورية كحد أدنى طبعاً، فيما اكدع راتب في القطاع الخاص لا يتجاوز 400 ألف ليرة، ولن نذكر الرواتب الصفرية للعاملين في الدولة.

لم نحسب تكاليف الخطبة والعرس والمهر مقدمه ومؤخّره وفستان العروس و و و الخ.

كم عاماً يجب أن يعمل العريس لتسديد ضريبة الزواج؟!

أيُّ ورطة هي محاولة بناء أسرة جديدة في وطن الصمود؟!

ولا يكاد العريس يرمّم (جراح) البداية حتى يُبشَّرَ بقدوم الوريث العظيم، ولا ندري ماذا سيرث منا أطفالنا سوى الفقر والخوف والحرمان.

وهنا تتضاعف المأساة خاصة في ظلّ اختفاء حليب الاطفال والغلاء الفاحش للألبسة والمحارم ووسائل التدفئة، التي لن يستطيع الأب الجديد الاستغناء عنها والاختباء تحت بطانيات الهلال كما نفعل نحن الكبار.

فحتى لو غامر الشاب وفعلها ورضيت الفتاة بالعيشة الضنكة، فلن يطول الأمر في كثير من الحالات حتى يجعل الفقر والبؤس من الحياة الزوجية استحالة، فيكون الطلاق وتدمير الأسرة الناشئة.

إنّ كل من تسبّبوا بهذا الخراب نتيجة تعنّتهم ورفضهم لأي حلّ سلمي قائم على الحوار واحترام الاختلاف يتحمّل ـ إضافة إلى كل ما يتحمّله ـ مسؤولية دمار المجتمع السوري بتدمير الأسر الجديدة قبل نشوئها.

العدد 1105 - 01/5/2024