الأرخص لمن؟

أحمد ديركي:

سمعت من الجيل الذي سبقني أنه على هذه الأرض كان هناك بقعة جغرافية تمتاز بمناخها الجميل، وبساتينها الزاهية. بقعة يسكنها شعب ويعتاش منها، اتصف بصفة الإنتاج الفكري على أكثر من صعيد من دون أن يتهدّده أيّ قمع أو تسلط.

بعد فترة من الزمن وقع تحت الاحتلال الأجنبي، فقاوم المحتل وطرد العملاء وأسس نظاماً جمهورياً، على الرغم من أن هذا التركيب السياسي لم يكن ليتوافق مع بنيته الاقتصادية والاجتماعية. إلا أن عصر الانتقال من عصر الإمبراطوريات إلى عصر نظام (الدولة الحديثة) فرض عليه عملية الانتقال، كما فرضه على بقع الأرض كافةً.

بقي هذا البلد ينعم بقليل من إرثه التاريخي، ومنها بساطة العيش فيه، وتدنّي تكاليف العيش، وتأمين الحدّ الأدنى من مستلزمات الحياة من دون عوز أو فقر.

نشبت فيه اضطرابات أمنية وسياسية منذ فترة قصيرة، ما أدى إلى تدميره بشكل ممنهج، وشرّد أهله، وتدنّت كل مستويات العيش فيه، وارتفعت تكلفة العيش فيه إلى حد أصبح من البلدان ذات النسبة المرتفعة للذين يعيشون دون خط الفقر، وجزء آخر يعتاش على الإعانات الخارجية، ومن مدخول يأتيه ممن هُجّر من بلده إلى بلدان الاغتراب، إن كُتبت له الحياة.

حالياً يعيش شعب هذا البلد في حال يرثى له، طبعاً إلا من كُتب له أن يكون ليس من عامة الشعب. أجور شهرية متدنية جداً لا تكفي العيش لأكثر من أسبوع. والمقصود بالعيش هنا فقط ثمن الطعام، من دون احتساب كلفة النقل والطبابة والتعليم والسكن والملبس …وغيرها.

في ظلّ كلّ هذا العوز الذي يعيشه شعب هذا البلد، طبعاً من دون نسيان أن من ليسوا من عامة الشعب ما زالوا يتمتعون بنعيم العيش وبذخ الحياة، ورد خبر عنه، في إحدى الصحف الأجنبية، يثير الضحك.

أصدرت مجلة (economist) تقريرها السنوي حول تكاليف العيش لعام 2022، ومما جاء فيه:

ارتفاع تكاليف العيش في دول الاتحاد الأوربي بنسبة 8.1% بالسعر المحلي، رقم يمثل أسرع نسبة ارتفاع تشهده دول الاتحاد منذ 30 سنة.

إضافة إلى كثير من المعلومات التي وردت في تقريرها السنوي، أتى تحت عنوان (أرخص المدن)، للعيش فيها، ذكر مدينة دمشق.

التقرير محقّ، فمدينة دمشق اليوم يمكن أن تصنف على أنها واحدة من أرخص مدن العالم للعيش فيها، لكن ما تجاهل التقرير ذكرُه هو الإجابة عن السؤال التالي: دمشق هي الأرخص للعيش، لمَن، إذا كان أكثر من 70% من سكانها يعيشون دون خط الفقر؟

العدد 1104 - 24/4/2024