متفائل أم واهم؟!

حسين خليفة:

يرى المتشائم الصعوبة في كل فرصة، أما المتفائل فيرى الفرصة في كل صعوبة (ونستون تشرتشل).

التفاؤل والأمل والتفكير الإيجابي مفردات لصيقة بالحياة والتطور والقيم الإيجابية، وهي من روافع تقدم الإنسان والمجتمع ونجاحهما في مسيرة البشر نحو تحقيق حاجاتهم ورغباتهم وأحلامهم التي لا حدود لها، فكل حلم يتحقّق يصبح درجة في سلالم الحياة وعتبة للتالي من الأحلام والأمنيات.

وبالضّد منها تقف مفردات اليأس والتشاؤم والسوداوية وانسداد الأفق لتضع جدراناً صمّاء بين الإنسان وتحقيق أحلامه وتطلّعاته.

الأمر موضوع لقصص وأمثال وحكايات تتكرّر آلاف المرّات على ألسنة الناس وفي الكتب والمجلات والمواقع كعناوين استُهلكت لكنها ما تزال في التداول، مثل: نصف الكأس الملآن أو الفارغ، فكلٌّ يراها وفق رؤيته، متفائلاً أو متشائماً.

وممّا يُقال في هذا السياق تجاه رؤية الإنسان المتفائل والآخر المتشائم لأوقات الشدّة والتّأزم والضيق، فيقول المتشائم: لا يوجد أسوأ من هذا الوضع. بينما يقول المتفائل: هو سيئ، نعم، لكن هناك ما هو أسوأ.

هنا تختلط الحدود وتتداخل بين التفاؤل الحقيقي المبني على رؤية واقعية للصعوبات والعوائق والبناء عليها في ابتداع واكتشاف طرق لتجاوزها أو على الأقل الاستمرار في العيش ضمن أسوأ الظروف ريثما تلوح كوة ضوء تتيح لهم تجاوزها والخروج منها باتجاه حياة تليق بالإنسان، والتفاؤل المفرط والساذج المبني على كلمات يُردّدها الناس فيها الكثير من التواكل لا التوكّل، وأنّ هناك قوة خفيّة ستقوم بحلّ مشاكلك كلها ولا بدَّ أن تنتظرها قانعاً راضياً حتى يأتي أوانها ويكون الخلاص والحل.

وفي مجتمعات مهزومة تاريخياً مثل مجتمعاتنا يكثر هذا النوع من التفكير والمقولات التي تستمد مبرراتها من إرث اجتماعي ديني ثقافي قائم على انتظار المُخلّص، من أصغر قضية فردية إلى القضايا الكبرى مثل انتصار الحق على الباطل وهزيمة الشر كمفاهيم مطلقة، وظهور المخلِّص (المسيح أو المهدي…الخ) الذي سيملأ الأرض عدلاً بعد أن مُلئت جوراً.

وهي أقوال جميلة ومريحة وتجعلك تتحمّل أقسى الظروف لكن دون أن تفعل شيئاً ذا قيمة في سبيل الخروج من الوضع والتأسيس لحالة جديدة، فما عليك إلاّ انتظار المخلِّص سواء كان نبيّاً أو زعيماً أو آلهة.

هذا النمط من التفكير الاتكالي الذي يُفرط في تفاؤل لا مقوّمات له في المدى المنظور ولا مُعطيات تؤشّر لظهوره في الواقع لأنه مبني أساساً على أساطير أو رؤى لا علاقة لها بالعلم.

التفاؤل المُفرط والساذج غير المبني على رؤية واقعية وإبداع للمخارج والحلول واكتشاف للفرص المتاحة والسعي إليها هو في الواقع هروب وهزيمة واتكال، وهو يفاقم الوضع النفسي للإنسان المنكسر الحالم ويزيده سوداوية حالما تأتي نتائج تفاؤله الساذج والمُفرط عكسية، وقد تُسبّب ترديّاً في الحالة النفسية وربما توصله إلى الانتحار.

لكن لا عمل ناجحاً بلا تفاؤل، فأن تستيقظ صباحاً وتنظر إلى الأفق المكفهر، في وضعنا السوري الحالي مثلاً، حيث عتمة تطبق على الأنفاس، والبرد، والضعف أو انعدام الاتصالات وشبكة الإنترنت، ونقص المواد التموينية بسبب الغلاء الفاحش، تغسل وجهك بماء بارد، تفتح الثلاجة الفارغة، تنظر إلى علبة القهوة فتراها في النزع الأخير، المتة صارت أكبر من طاقة المستهلكين، فتهاجمك نوبة يأس.

هل تكون مفرطاً في التفاؤل فيما لو استقبلت نهارك بابتسامة ولم تستسلم لهذا الواقع البائس، وفكّرت فيما ستفعله بعد فنجان قهوتك؟!

طبعاً ستكون حالماً وخيالياً وتعيش خارج الواقع.

ابتسامة الصباح لزوجتك، حبيبتك، أولادك الذين يحتاجون إلى جرعة أمل في هذا الخراب العميم، لن تأتي إلاّ إذا كنت قد وضعت خطة لمواجهة احتياجاتك واحتياجات عائلتك بالإمكانات المتاحة.

لكن هذه الابتسامة ضرورية ولازمة لبدء النهار الجديد كما يقول ستيفن كوفي: (سيكون يومك مشابهاً للتعبير المُرتسم على وجهك، سواء كان ذلك ابتساماً أو عبوساً).

طبعاً ستيفن كوفي شخص مبدع وصاحب أفكار مهمة في لغة الجسد وخلق الشخصية المتكاملة القوية القادرة على الوصول إلى الهدف، لكني أراه مُبالِغاً في التفاؤل، وهو مرجع رئيسي لكل اللاهثين خلف تُرّهات وقشور تأخذ ملخصات من البرمجة اللغوية العصبية ولغة الجسد والطاقة الإيجابية، وغيرها من المصطلحات التي راجت في حياتنا في السنوات الأخيرة، وأصبحت باب ارتزاق وثراء لكثير من الدجّالين المعاصرين، وتسارع الحكومات إلى استثمارهم ومنحهم فرص الظهور والشهرة وألقاباً علمية خلبية (دكتور، مدرب، باحث…الخ)، رغبة منها في نشر تلك الثقافة التي تسوّق لفكرة أنّ كل مشاكل الإنسان سببها ومصدرها الإنسان ذاته، وما عليه كي يتخلّص منها إلاّ أن يتبع نصائح هؤلاء الدجّالين ويسجّل دورات عندهم، وسيبدأ رحلته مع النجاح والسعادة والتوازن الروحي.

فيلغون بذلك دور العوامل الموضوعية، وهي الأزمات التي تخلقها تلك الحكومات باستبدادها وفسادها وتغوّلها وتهرّبها من مسؤولياتها. وهو ما أشرنا إليه بالتفاؤل الفارغ الساذج الطفولي القائم على الوهم، فيدخل الفرد في دوامة لا تنتهي من العُقد النفسية والروحية وجلد الذات.

وقد ظهرت خلال سنوات الحرب السورية حالات اتكال جماعي من قبل قطاعات اجتماعية بكاملها تختلق المبررات والأعذار لكل الماسي التي تعيشها مع بقية السوريين، وتُقدّم آمالاً واهية على الدولة الفلانية أو المجتمع الدولي بأنها ستقدّم لنا الحلول والمخارج الجاهزة لكل المشاكل والأزمات والخراب الذي خلّفته الحرب.

وها هم الآن يعيشون صدمات للمرة الألف من انقلاب المواقف والاصطفافات، ومن إدارة الظهر لمآسي السوريين وجوعهم وبردهم من قبل من كانوا يبنون عليه الآمال، لكنهم وبعناد نادر يستمرون في بناء أوهام جديدة غافلين أو متغافلين عن الطريق الوحيد للحل والبداية التي لا مناص منها، وهي الحوار الحقيقي بين جميع القوى والمكونات السورية برعاية وضمانات دولية للبدء بتطبيق القرار 2254 الذي لا مجال للتهرب من استحقاقاته عاجلاً أو آجلاً.

العدد 1105 - 01/5/2024