مسعد يا تنّور!

عبد الرزاق دحنون:

تعزُّ عليَّ لوحةٌ صغيرة من أيام طفولتي، أحبّ استرجاع تفاصيلها بين الحين والحين، ولحظة عودتها أُحسُّ كأنها رُسمت يوم أمس. ها أنذا ألمح تفاصيلها بألوانها الحيّة الزاهية: إذا فتحت باب دارنا بحيّ المَنطرة في الجنوب الغربي من مدينة إدلب في الشمال السوري، أوائلَ سبعينيات القرن العشرين، فإنك سترى على الفور تنّور أمّي أمامك مباشرة، وبجانبه وقِيدُ أغصان أشجار الزيتون المرصوصة في بَنادك.

ها أنذا أرى الآن أمّي (عيوش دهنين)، تخطو بهمّة قرب شجرة الرمّان، على حافة الدرب الذي يفصل التنّور عن البيت، تجمع تلك الأغصان الرفيعة، الناتجة من تقليم أشجار الزيتون، لتلقيم التنّور. وهذه الأغصان جُمعت في بنادك وقيداً لخبز العجين. وبنادك جمع بندك. تقول (حمل حطب) وتقول (بندك وقيد)، وهو ما يُعادل حمل حمار من أغصان الزيتون الرفيعة الخضراء تُجمع من تقليم أشجار الزيتون في الخريف أو الربيع، وتُترك خلف التنور لاستعمالها وقيداً في متناول اليد متى تشاء رغيفاً ساخناً طازجاً، يخرج مقمَّراً مدوّراً. وهو ما قصده ابن الرومي، أبو الحسن علي بن العباس بن جريج، في قوله:

 

ما أنسَ لا أنسَ خبازاً مررتُ به

يدحو الرقاقةَ وشكَ اللمح بالبصرِ

ما بين رؤيتهــا في كفّــه كـــرةً

وبين رؤيتهــــا قــوراء كالقمــرِ

إلا بمقــدار ما تنـــداحُ دائــــرةٌ

في صفحة الماء يُرمى فيه بالحجرِ

 

وكلمة تنّور في كتاب كيمياء الكلمات، للباحث والروائي العراقي عليّ الشوك_ رحمه الله_ كلمةٌ أصيلة في اللغة السومرية، لأنّ شمال بلاد الشام والعراق، كان الموطن الأول لزراعة الحنطة التي يُصنع منها رغيف الخبز من دقيق القمح المطحون في الرحى. ومن لوازم التنور هناك أيضا (الكارة)، وهي دائرة من قماش محشوة بما تيسَّر من (شراطيط) القماش المهمل، يُفرش عليها رغيف العجين ثم يجري لصقه على جدار التنور الداخلي، و(الشوبك) أو (المرقاق) وهو من خشب شجر السنديان، و(محراك) التنور، ويكون عادة من غصن مستقيم طويل من أغصان الزيتون أو الرمان أو التين؛ لتحريك الجمر الخامل في التنور مع صوت عذب يصدح بالغناء: (مسعد يا تنور، يمّا ليلة، مسعد يا تنور، يا مجمع الزينات، مسعد يا تنور).

وفور ترديد كلمات هذه الأغنية من التراث الشعبي السوري على مسامع أناس من عهد الآباء والأجداد (وقد أحيتها من جديد فرقة الصعاليك السورية في تسجيل جديد جيد)، تعود بهم الذاكرة إلى أزمنة كان للتنّور فيها حضورٌ شهيّ في وجدان من عرفه، وركنٌ لا غنى عنه في البيوت والدور العربية على امتداد رقعة الأرياف، قصرت أم بعدت مسافتها، في ذلك الوقت كان لخبز التنّور الساخن طعم لا يعرفه جيل الكيك والوجبات السريعة الآن.

 

مسعد يا تنّور

يمّه ليلة

مسعد يا تنور

يا مجمّع الزينات

مسعد يا تنور

والخدّ بلّور

يمّه ليلى

عنقا عنق الغزال

والخدّ بلّور

ومنين أعرفه

يمّه ليلى

كلّهم عيونهم سود

ومنين أعرفه

داير على ولفه

يمّه ليلى

متل السمك في الميّ

داير على ولفه

يقول الكاتب علي الشوك، في مقال منشور في جريدة (الحياة) اللندنية، التي بعد توقف صدورها، حُجبت مقالات كُتّابها عن القُرّاء في موقعها الإلكتروني، وهذه كارثة ثقافية كبرى بحق الكتّاب والقُرّاء معاً لا تُغتفر، وكنتُ قد نسخت بعضاً من مقالات عليّ الشوك في جريدة الحياة واحتفظتُ بها لأنني من مريديه. وقد تجرّأتُ وأضفت إلى ما يقول شذرات من معلومات عن التنور والخبز والطبيخ في بلاد الشام:

(كان المطبخ السومري قائماً على الخبز. فالرمز المسماري للأكل، هو علامة الفم مع علامة الخبز في داخله. وكلمة أكالو الأكادية تعني يأكل، وكلمة أكلو تعني خبز. وتفيدنا الرُّقُم الطينية بأنّ سكان وادي الرافدين القدامى كانوا يصنعون أكثر من ثلاثمئة نوع من الخبز، الفطير وغير الفطير. وعندما تعلّم أنكيدو في ملحمة كلكامش الشهيرة كيف يأكل مثل سائر بني البشر بدلاً من ارتضاع الحليب من حيوانات البر، كان أوّل شيء تعلّمه هو أكل الخبز: كل الخبز، يا أنكيدو، بهجة الحياة).

وكنت أحب أن أعرف ماذا كان أجدادنا العراقيون يأكلون، فرغيف الخبز العراقي الذي يخبز في التنور كان في الأصل من عمل أهل سومر. ولعل خبز (العروق) المعاصر وهو (صفايح، أو لحم بعجين) كما يُعرف هُنا في مدينة إزمير على شاطئ بحر إيجة، حيث أُقيم مع أسرتي، بعدما شرّدتنا الحرب السورية الى ديار الغربة هذه. والعروق في وادي الرافدين هو: خبز بلحم وبصل وتوابل، وجذوره بابلية أيضاً. ولو عُدنا إلى تنّور أمي أمام باب دارنا في إدلب، فقد كانت في بعض الأيام، وبعد الانتهاء من خبز أرغفتها، تصنع لنا خبزاً بفليفلة حمراء، وهي أرغفة سميكة العجينة وأصغر من أرغفة الخبز المشروح العادي، يُفرش على وجهها معجون الفليفلة الحمراء المدقوقة دقّاً ناعماً بهاون النحاس، والمتبّلة بالتوابل والسمسم، وتُخبز في التنور، ولا أعتقد بأنك ستجد لها مثيلاً هذه الأيام.. وصحتين وعافية!

العدد 1104 - 24/4/2024