واشنطن والإحباط الأوربي!

د. صياح عزام:

تجد أوربا نفسها، بعد نحو عشرة أشهر من بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، مضطرة لمراجعة مواقفها حول مواصلة تقديم الدعم العسكري والمساعدات المالية إلى أوكرانيا، بعد أن بات اقتصادها يواجه صعوبات وتحديات هائلة، وبعد الشعور المتنامي لدى الأوربيين بأن الولايات المتحدة الأمريكية هي التي ورّطتهم في هذه الحرب، وأنها هي المستفيد الوحيد من استمرارها.

في بداية الحرب الأوكرانية التي دبرتها أمريكا لتستثمر فيها، حاول القادة الأوربيون الظهور بمظهر أوربا الموحدة والمتضامنة في مواجهة روسيا، إلا أن محاولات التستر على انقسامات حصلت بين الأوربيين لم تدم طويلاً، فقد بدأت الخلافات بين زعماء أوربا تطفو على السطح بالتزامن مع ظهور التناقضات الأوربية الأمريكية، بعدما نفدت قدرات الأوربيين على احتمال المواقف والقرارات الأمريكية، وبعد أن تولدت لديهم القناعة بأن الولايات المتحدة الأمريكية هي الطرف الوحيد المستفيد من استمرار الأزمة الأوكرانية، إلى جانب أن مستودعات الأسلحة الأوربية أصبحت شبه فارغة.

جدير بالذكر أن أصواتاً أوربية رسمية وشعبية ارتفعت منذ بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وعارضت منذ البداية فرض عقوبات على روسيا، ودعت إلى أخذ الهواجس الأمنية الروسية بالحسبان، بما يكفل إعادة صياغة الأمن الأوربي على أسس جديدة وعادلة تلبي مصالح جميع الأطراف، بما فيها الطرف الروسي، الذي شعر فعلاً بأن حلف الأطلسي لديه نوايا شريرة للاقتراب من الحدود الروسية، بل وتطويق روسيا من عدة جهات بنشر قواعد وأسلحة في دول أوربية محاذية لها، إلا أن الولايات المتحدة وحلفاءها في الناتو أصموا آذانهم تجاه هذه الأصوات، وتجاه التحذيرات الروسية المحقّة، وذلك بسبب هيمنة أمريكا على القرار السياسي الأوربي، وكانت النتيجة هي تدفق المساعدات والدعم اللوجستي والأسلحة الحديثة الفتاكة والمتطورة على نظام زيلينسكي في أوكرانيا، وحتى دعمه بمعلومات استطلاعية مهمة، وضباط من حلف الأطلسي لقيادة المعارك، وأيضاً بمتطوعين من المرتزقة الأوربيين وغيرهم للقتال إلى جانب الجيش الأوكراني، هذا كله تزامن أيضاً مع ظهور أزمة خانقة للطاقة، وتقلّص إمدادات الغاز الروسي إلى أوربا، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع أسعار المحروقات وأسعار المواد الغذائية والمعيشية، خاصة بالنسبة للطبقات الفقيرة والمتوسطة، وبالتالي أدى كل ذلك إلى ظهور الاحتجاجات وتنظيم المظاهرات التي جابت الشوارع والساحات في كثير من الدول الأوربية، منددة بالغلاء، ومطالبة حكوماتها بالانصياع للرأي العام، ووقف المساعدات الضخمة لأوكرانيا، انطلاقاً من الشعور بأن شعوب دول أوربا هي من بات يدفع الثمن، وما يعزز هذا التغير في مواقف الرأي العام هو انتقاله إلى المسؤولين الأوربيين أنفسهم الذين بدؤوا يعبّرون بشكل وبآخر عن مواقفهم الغاضبة علناً تجاه السياسة الأمريكية المتعلقة ببيعهم الغاز الذي يتم توفيره من مناطق مختلفة من العالم بأسعار مرتفعة جداً على أبواب الشتاء.

لكن في النهاية، يتيقّن الأوربيون أن المستفيد الأكبر من كل ذلك هو الولايات المتحدة، وأنهم هم الضحية، وهم من يدفعون الثمن، وما زاد الطين بلة هو القرارات الأمريكية التي تسمح بتقديم تسهيلات ومساعدات مالية كبيرة للشركات بهدف جذب الشركات الأوربية إلى أمريكا، الأمر الذي يلحق الضرر الكبير بالصناعات الأوربية والاقتصاد الأوربي الذي لم يتعافَ بعدُ من جائحة كورونا، وهو ما عبّر عنه عدة مسؤولين أوربيين، كما أنه سيكون حاضراً خلال زيارة ماكرون الأخير لواشنطن ومحادثاته مع الرئيس بايدن.

 

العدد 1105 - 01/5/2024