محاولة انقلاب في ألمانيا.. بين التهويل والحقيقة!

طلال الإمام_ السويد:

تناقلت مختلف وسائل الإعلام خلال اليومين الماضيين وعلى صدر صفحاتها خبر إحباط السلطات الألمانية لمحاولة انقلاب عسكري تقف خلفها حركة (مواطنو الرايخ) النازية التي لا تعترف بحدود ألمانيا وأوربا بعد الحرب العالمية الثانية، إضافة إلى قوى يمينية متطرفة أخرى. بلغ عدد المعتقلين 25 شخصاً بينهم سياسيون سابقون، عسكريون ومحامون. كان لهذه الحركة ذراع عسكري وأنصارها موجودون في أكثر من ولاية ألمانية. مخطط الحركة الانقلابية كما أوردته الأنباء هو إسقاط الدولة الألمانية بالسلاح عبر اقتحام البرلمان وإعلان ألمانيا مملكة مع تنصيب ملك، وعدم الاعتراف بالنتائج الجيوسياسية للحرب العالمية الثانية التي أسقطت النازية الهتلرية.

ثمة تفاصيل كثيرة في وسائل الإعلام، حول تاريخ هذه الحركة، وهيكليتها ونشاطاتها، وهي تحلم بإعادة النازية.

لكن وبعيداً عما تتداوله الأخبار، ربما من المفيد إلقاء الضوء على أسباب كشف هذه الحركة الانقلابية الآن، علماً أنها تنشط منذ عشرات السنين؟ وماهي أسباب تصاعد القوى اليمينية المتطرفة المتحالفة مع العنصرية والفاشية، بل ووصولها إلى مركز القرار في أكثر من بلد أوربي؟ لماذا التهويل بحركة قديمة نسبياً وعدد أعضائها قليل في بلد كبير مثل ألمانيا؟ ثم أليست الأنظمة القائمة وسياساتها الداخلية والخارجية مسؤولة عن تنامي القوى اليمينية المتطرفة والنازية الجديدة في بلدانها؟ هذه الأسئلة وغيرها طرحتها أخبار محاولة الانقلاب العسكري في ألمانيا وتحتاج للإجابة.

أرى أن ثمة أسباباً كثيرة لهذا الحدث الذي يشعر المرء أن الضجة المثارة حوله مبالغ فيها، وبشكل خاص في هذا التوقيت بالذات:

أولاً_ أشرنا سابقاً، أكثر من مرة، إلى أن نظام الليبرالية قديمها وحديثها يعاني من أزمة بنيوية لم يعد ينفع معها الترقيع، هذا النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي انبثق بعد الحرب العالمية الثانية قد استنفد فرص وجوده، ودخل في غيبوبة بسبب أزماته المتفاقمة التي لم تعد تنفع معها الأساليب السابقة لتجاوزها. وهو يرتعد من إرهاصات ولادة عالم جديد متعدد الأقطاب.

ثانياً_ ونتيجة لما ذكر إعلامه، بدأ هذا النظام يفقد حاضنته الشعبية التي اكتسبها بفعل العديد من الضمانات التي حققها لشعوبه، تلك النجاحات التي لا تُنكر، وكانت أحياناً كثيرة بفعل النهب الاستعماري لثروات البلدان الأخرى، لذلك بدأ التململ مؤخراً، بعد ان انخرط النظام الرسمي الأوربي في معركة ليست معركته، بسبب المساعدات الضخمة لأوكرانيا التي أنهكت اقتصاده، الأمر الذي انعكس ارتفاعاً في نسبة البطالة وغلاء تكاليف المعيشة مع ارتفاع الفائدة وانخفاض عملته الوطنية مقابل الدولار.

ثالثاً_ إن احتجاجات المتضررين التي تتسع في البلدان الأوربية من سياسة حكوماتهم أرعبته، فبدأ يغازل أو يتحالف مع اليمين المتطرف العنصري والنازي. كانت غالبية شعارات المحتجين موجهة ضد الناتو، والانصياع للأجندة الأمريكية وضد المساعدات التي تقدم لأوكرانيا على حساب حاجات الناس، ومواجهة الأزمة الاقتصادية الخانقة.

رابعاً_ إن سياسة الكيل بمكيالين التي تمارسها حكومات الاتحاد الأوربي بدأت تلحق الضرر بشعوبها، فهي تدّعي محاربة الإرهاب والنازية في بلدانها، لكنها تدعم تلك القوى في بلدان أخرى (في العراق، أفغانستان، سورية وأوكرانيا وغيرها)، تماماً كما تدعم العلمانية في بلدانها وتدعم المتطرفين ضدها خارج حدودها، ولنا من تجربة دعم الإخوان المسلمين، والقاعدة وداعش خير دليل.

رابعاً_ استغلت قوى اليمين المتطرف والقوى النازية والعنصرية تشتّت اليسار وقوى السلام وضعفها، فبدأت ترفع خطاباً شعبوياً على أمل كسب الشارع، وقد كسبته لفترة. لكن الآن لم يعد هذا الخطاب ينفع، فوقع هذا اليمين بشرّ أعماله، وهو يحصد نتائجها الآن.

إن الصورة التي قدمناها أعلاه هي للوصول إلى نتيجة مؤداها أن اليمين بجميع تلاوينه وبسبب تحالفاته الواسعة مع بيوتات المال والشركات الاحتكارية في مجال النفط والسلاح يحتاج إلى خلق صورة لعدو، كان بعد الحرب العالمية الثانية بعبع الشيوعية، وبعد أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) صار الإسلام، والآن روسيا وغداً؟ من هنا يحتاج الاتحاد الأوربي بشكل جماعي أو إفرادي إلى خلق عدو، ربما يكون وهمياً أو خطراً داهماً، لاستمرار ديمومته التي تتآكل كي لا نقول تنهار، ولصرف أنظار الاحتجاجات المتصاعدة لدى شعوبه على السياسات التي يتبعها داخلياً، وخارجياً، عبر تخويفها من تصاعد النازية.

من هذا المنظار، أرى أنه يمكن قراءة خبر المحاولة الانقلابية في ألمانيا الآن وفهم أهدافه المعلنة والمستترة ووضعها في مكانها وحجمها الطبيعي.

نعم، ثمة خطر داهم من تصاعد النزعات العنصرية والفاشية/ النازية في أوربا، ولكن مَن غضّ الطرف عنها؟ ومن ساعدها ويساعدها أوربياً وعالمياً؟ ومن له مصلحة بتجييش الناس ضد عدو مفترض هو نفسه يدعمه بأشكال علنية وسرية؟ لماذا غابت مفردات تطالب بالسلام وحلّ النزاعات بالحوار؟

لا أدري لماذا، وأنا أتابع أخبار المحاولة الانقلابية في ألمانيا، قفزت إلى الذاكرة محاولة الانقلاب الفاشلة على غورباتشوف، أو المسرحية كما يعتقد البعض، واستلام يلتسين على أثرها ونتائج ذلك على روسيا والعالم.

أخيراً ثمة شعور بأن البلدان الأوربية بدأت تستخدم ودون خجل أساليب بعض حكام ما يسمى بالعالم الثالث التي تدينها! الأنظمة الأوربية تفتش عن شماعة أو فزاعة لتحقيق أجنداتها. السؤال هل هذه المحاولة الانقلابية تهويل تخفي خلفها أجندات تخويف الشارع من الاحتجاجات أم حقيقة؟

العدد 1105 - 01/5/2024