الشعرة التي قصمت ظهر البعير

د. نهلة الخطيب:

شكل الاتحاد الأوربي نموذجاً فريداً لتكتلات دولية أثبتت نجاحها وكانت مثلاً يحتذى به عالمياً يتألف من 27 دولة أوربية بتعداد تقريبي 465 مليون نسمة، بدأت تكتلها باسم جماعة الفحم والصلب، ثم جماعة السوق الأوربية، ثم جماعة الطاقة النووية، ثم جماعة الاقتصاد الأوربي وأخيراً الاتحاد الأوربي عام 1992، فكانت منظمة أممية ناجحة لها صوت واحد ونظام سياسي واحد أحزاب وجماعات ضغط، وحكومة هي المفوضية الأوربية مؤلفة من 27 مفوضاً أوربياً يحمل كل مفوض حقيبة مسؤول عن كل الاتحاد الأوربي 90% من القرارات التي تأتي هي قرارات الاتحاد الأوربي لكل الدول الأوربية، المجلس الأوربي هو السلطة الأعلى للاتحاد مكون من رؤساء الدول الأعضاء، يتم تعيين رئيسها بعملية توافقية غير ديمقراطية لمدة سنتين قابلة للتمديد، الأحزاب موجودة بكل الدول الأوربية، فأصبح لدى الاتحاد الأوربي نموذج جديد هي الأحزاب في البرلمان الأوربي الذي يتألف من 750 عضواً يصلون بالانتخابات عن طريق الأحزاب الموجودة بدولهم، ولوصول حزب إلى البرلمان الأوربي يجب أن يكون موجوداً بخمس دول أوربية. يتألف البرلمان من 7 مجموعات داخل كل مجموعة 60 إلى 70 حزباً، يشكلون تحالفات للوصول إلى البرلمان وايصال أصواتهم ومطالبهم. رئيس البرلمان يكون من الحزب الذي أخذ أكبر نسبة تصويت، كما أنه جرى تأسيس محكمة العدل الأوربية، لذلك يصنف بأنه منظمة إقليمية سوبر ناشيونال فوق قومية، فالسياسات تأتي منه إلى الدول الأعضاء وتقوم بتنفيذها، ولكن حتى الآن ليس للاتحاد الأوربي جيش دفاعي، إذ يفتقر إلى عقيدة وقوة عسكرية موحدة، وإلى قيادة قادرة على اتخاذ القرارات المهمة في المسائل الدفاعية والأمنية رغم المطالبة بذلك، وأبرز المطالبين فرنسا وألمانيا حتى تكون أوربا قادرة على الدفاع عن نفسها دون الحاجة للحماية الأطلسية الأمريكية، وخصوصاً بعد تخلي الولايات المتحدة الأمريكية عن الاتحاد الأوربي في عهد الرئيس ترامب، الذي اتهمها بالتقصير في توفير الدعم المادي لحلف الناتو، فكانت من أهم التحديات التي يواجهها الاتحاد الأوربي، ولاسيما بعد مرور قرابة السنة على الحرب الروسية الأوكرانية دون جدوى في ايجاد حلول لإيقافها، وقد وضعت أوربا على المحك في أمنها الطاقي وعجزها عن حسم التهديدات الوجودية، وسببت تباينات وخلافات عميقة بينها، وكان من الصعوبة الإجماع على رأي موحد بين الدول الأعضاء بخصوص مواجهة روسيا وفرض عقوبات اقتصادية عليها، وفي ضوء الأزمات والتحديات الكبيرة التي يواجها الاتحاد الأوربي بشكل قد يؤثر على استمراريته، والتي بدأت بوباء كورونا وتداعياته على الاقتصاد، إلى أزمة اللاجئين والمهاجرين، التي أدت إلى ظهور تيارات اليمين الشعبوي سواء بالوصول إلى الحكم في إيطاليا والسويد أو تمدد نفوذها في ألمانيا وفرنسا، وهذه التيارات تدعو إلى الخروج من الاتحاد الأوربي، يضاف الى ذلك مجاراة الاتحاد الأوربي التحولات المتسارعة الجارية في قطبية النظام الدولي، وبروز قوى صاعدة لترسيخ مكانة أوربا وحتى لا تقع فريسة لعبة المحاور بين القوى العظمى.

يواجه الاتحاد اليوم أكبر فضيحة فساد وتلقي رشاوي تهز البرلمان الأوربي منذ سنوات: إيفا كارني (نائبة رئيسة البرلمان الأوربي) واحدة من أربعة أشخاص اعتقلوا واتهموا بالفساد وغسيل الأموال فيما يتعلق برشوة مزعومة من قطر، بهدف التأثير على القرار الأوربي، فهي قضية خطيرة جداً من جهات عدة، إذ تشكل صفعة في مصداقية البرلمان الأوربي، وفي أنها باتت على المحك، وفي جميع المناقشات القائمة على المخاوف التي تطورت من سنوات عديدة حول فاعلية الاتحاد الأوربي وديمومته، وإنها قضية تضيف مزيداً من المشاكل والصعوبات. مفوض السياسة الخارجية للاتحاد الأوربي وصف الوضع بأنه مقلق للغاية، ورئيسة البرلمان الأوربي قالت إن الديمقراطية الأوربية تتعرض لهجوم، متعهدة بإصلاح المؤسسة، برغم من وجود طروحات إصلاحية ومبادرات قدمتها فرنسا وإيطاليا وألمانيا سابقاً إلا أن الاتحاد الأوربي يمر بمنعطف خطير حول إمكانيته بالاستمرار ومواجهة التحديات التي تتفاقم يوماً بعد يوم بالتوازي مع ازدياد التضخم الاقتصادي والبطالة والفقر والهجرة، وهو ما يشكل ضغطاً على قادة الدول الأوربية ويُلزمهم بمراجعة التشاركية الثقيلة بسبب اختلاف الظروف والإمكانيات المادية، وعجزهم في تحقيق التكامل الأوربي كما كانوا يحلمون. فلا غرابة بأن تصبح قضية إيفا كارني هي الشعرة التي قصمت ظهر البعير.

العدد 1105 - 01/5/2024