لنُربٍّ أنفسنا من جديد!

إيناس ونوس:

قامت التربية في سابق عهدها ولما تزل على فكرة القمع، فما إن يبدي الطفل رأياً ما أو ملحوظة ما لا تعجب الأهل مهما كانت بسيطة، حتى يلقى اللوم والتعنيف من أقرب المقربين حتى أبعد شخص يمكن له أن يتدخل بتربيته، بذريعة أهمية وضرورة اكتساب الطفل للآداب العامة القائمة أساساً على قبول كل ما يستقبله من والديه والمقربين بغض النظر عن رأيه أو وجهة نظره، فالأهل على صواب دائماً.

_ الأهل ليسوا على صواب دائماً:

من القيم الضرورية جداً في التربية اليوم أن يعترف الأهل أنهم ليسوا على حق دائماً، وأن يسمحوا لأنفسهم بأن يظهروا أمام أطفالهم بمظهر المخطئين في بعض الجوانب، بل وأن يعترفوا للطفل بأن رأيهم في تلك المسألة أو معالجتهم لذاك الموقف كان خاطئاً، فهم بهذا يزرعون في الطفل شجاعة الاختلاف، ومن ثم يحفزونه على امتلاك الجرأة لطرح أفكاره المختلفة عن أفكارهم والدفاع عن وجهة نظره، أو الأخذ بما يرونه بعد أن يكون قد امتلك شجاعة الحوار والنقاش البناء.

_ لهم أفكارهم ولنا أفكارنا:

إن امتلك الأهل والمربون القناعة الحقيقية بأن الأبناء ليسوا ملكية خاصة، وبأنهم أبناء الحياة المتغيرة والمتبدلة يوماً بعد يوم، تمكّنوا من قبول اختلاف أبنائهم في مراحل معينة من عمرهم يحق لهم الاختلاف فيها، ومن ثم إبداء الرأي  والدفاع عنه بكل ما أوتوا من قوة، ليتشكّل في ذهن كل من الأهل والأبناء أن أي اختلاف أو خلاف لا يفسد للود قضية.

_ إن اختلفنا لا يعني أنك لست موجوداً في حياتي:

كبر معظمنا في أسرٍ وبيئات تعتبر أي اختلاف في العادات أو الرأي أو القناعات عبارة عن حرب باردة من شأنها أن تستعر في أي وقت، لتلغي الآخر تماماً وكأنه لم يكن موجوداً أساساً، ما دفعنا لتبني ثقافة المسايرة والمداهنة من أجل قبول الآخر صاحب السطوة لنا أياً يكن وضعه أو رأينا فيه، بهدف نيل رضاه واعترافه بوجودنا، وهذا الأمر من أكثر الأمور التي تؤرِّق الطفل الصغير حينما يعارض رغبات أو أوامر والديه لتأتي ردة فعل الأهل بقولهم: (لم أعد أحبك!)، أو: (إن لم تستجب لما أقوله أو أطلبه منك فأنت ولد عاقّ لا تقدّر كل ما أقوم به من أجلك)، ما يدفعه بالضرورة للخضوع وقبول أي أمر مقابل شعوره بالحب، وإلاّ فإنه يرى نفسه عديم القيمة، ما يدفعه لاحقاً لمحاولة اختلاق هذه القيمة بوسائل عدة قد يفضي بعضها إلى الهلاك.

إذاً، كل ما علينا الآن، وبعد كل ما نعيشه جميعنا اليوم، هو إعادة النظر في أساليب وطرق تربيتنا لأبنائنا، ومحاولة إعادة تربيتنا لأنفسنا على تقبل الآخر المختلف عنّا بأنه يمتلك الحق في هذا الاختلاف، انطلاقاً من أبسط الأمور وانتهاء بالقضايا المصيرية، وبقبول أن لكل امرئ رأيه ونمطية تفكيره وقناعاته التي من الممكن أن تكون مغايرة تماماً لما نمتلكه، إلا أن هذا الأمر لا يعني بالضرورة أنه إنسان مرفوض أو سيئ، فلنتمرن على التخلّص من إطلاق الأحكام اعتماداً على وجهة نظرنا الخاصة البحتة، ولنقتنع بأن ليس كل ما نعتنقه من أفكار أو رؤى أو آراء أو قناعات هو صحيحٌ بالضرورة ويتناسب مع الجميع، فالحياة لم تكن لتصل إلى ما وصلت إليه من تطور وتبدل لو لم يكن الاختلاف سيد الموقف، وهذه اللبنة من أولى اللبنات المؤسسة لعملية التربية منذ الصغر، فإن نشأ الإنسان في بيئة تعترف بالآخر وبوجوده وبأهميته، تمنحه الحب غير المشروط بفرض قبولها، سيكبر متفتح العقل والقلب والوعي، وسيخرج من شرنقة أنا أو الآخر، فيغدو هو والآخر صنوان متكاملان لا يمكنهما إلاّ أن يكمّل كلٌّ منهما الآخر، فيشكّلان مزيجاً رائعاً لا معنى لأحدهما دون وجود الآخر.

العدد 1104 - 24/4/2024