الرأي الآخر

حسين خليفة:

أتذكّر طرفة كانت تُروى همساً أيام العز، أيام (كنّا مبسوطين) كما يحلو لكثيرين وصف الحال قبل اندلاع الاحتجاجات الشعبية عام 2011، لدرجة أننا كنّا وما زلنا نروي هذه النكتة همساً وفي دوائر ضيقة:

اجتمع ثلاثة أشخاص في برنامج تلفزيوني، أمريكي وسوري وروسي، قال لهم المذيع: لدينا سؤال عن رأيكم في الديمقراطية؟

قال الروسي: شو يعني ديمقراطية؟

قال الأمريكي: شو يعني سؤال؟

قال السوري: شو يعني رأي؟

تختصر هذه الطرفة حال التعامل مع الرأي الآخر في مجتمعاتنا المبتلية بالفقر والتخلف والفساد والعسكر، وهي كلها سلاسل لا تنفصل عن بعضها.

على المستوى الشخصي، حالما تختلف مع صديق أو قريب أو زميل عمل على أي قضية، حتى لو كانت مباراة رياضية أحياناً، فتراه ينبذك ويمارس محاولات الإلغاء بحقك والسخرية منك ومقاطعتك أحياناً، فكيف لو اختلفت معه في طرحك لمواضيع حسّاسة ومهمة مثل الدين، السياسة، الاقتصاد …الخ؟!

هذا السلوك هو نتاج تربية مجتمعية دينية سلطوية مغرقة في القدم، وهي متجذّرة في التفكير الجمعي منذ زمن طويل للأسف، فلا يجوز أن تختلف معي في ذوقك الفني، أو تشجيعك الرياضي، أو اهتماماتك الأدبية والثقافية، وسأقوم بمقاطعتك ومحاربتك، وتكفيرك أحياناً، حالما أكتشف أنك تغرد خارج سربي.

كما نجد في وسائل التواصل الاجتماعي مثل الفيسبوك والتويتر والانستغرام وغيرها أيضاً صوراً محزنة عن تعامل أبناء مجتمعاتنا مع الاختلاف بكل أشكاله ودرجاته، وحجم الإقصاء الذي يمارسه كلٌّ منا بحق المختلف معه في تعليق مثلاً، فيسارع إلى حذف صاحب التعليق أو حظره ليرتاح من عبء النقاش ويترك صفحته فقط للمصفقين له والمطبلين لإبداعاته.

إذاً، مقولة (إن كل واحد منّا يسكنه دكتاتور صغير يكبر ويزداد وضوحاً كلما كبر موقع صاحبه وفعاليته في المجتمع) هي مقولة صحيحة إلى حد كبير، وتنطبق على معظمنا مثقفين وعامة، أغنياء وفقراء، يساريين ويمينيين ووسطيين، متدينين وعلمانيين، يعيشون داخل البلاد او خارجها…الخ.

وقد كشفت الأزمة السورية حجم الانقسام الوطني الكبير الذي امتد إلى جميع الأوساط (موالاة ومعارضة) ودرجة الاستقطاب القصوى التي جعلت كثيراً من المؤيدين يؤيدون قتل أي معارض وحجز أملاكه وسجن عائلته وأقربائه أو طردهم، فقط لأنه لا يريد هذا النظام السياسي، ويرى أنه انتهى زمانه، ولا بدَّ من نظام سياسي جديد يتبنى الديمقراطية وحقوق الإنسان وأسس الدولة الحديثة. الأمر نفسه ينطبق على غير قليل من المعارضين خصوصاً الذين مارسوا منهم المعارضة السياسية على أساس ديني وطائفي، وصفّقوا لقتل أي مؤيد والاعتداء على أملاكه وعائلته وخطفهم، إلى آخر ما شهدناه من ممارسات طائفية مقيتة من بعض القوى التي ادعت أنها معارضة فيما هي تريد تحقيق مآرب طائفية، وتخدم قوى خارجية كما انكشف أمرها تماماً الآن وهي تصفق بل وتساهم في الاحتلال التركي لأجزاء من سورية.

حتى القنوات الفضائية التي رفعت شعار الرأي والرأي الآخر مع بداية صعود الإعلام المرئي الفضائي عبر انتشار (الستلايت) ودخوله بيوت الفقراء، لم تكن منسجمة مع شعارها يوماً، بل كانت إقصائية بطريقة ناعمة، فقناة الجزيرة مثلاً التي اشتهرت باصطفافها المعلن ضدَّ النظام السياسي في سورية ومع المعارضة السورية، أقصت معارضين سوريين معروفين وليسوا طارئين ممن ركبوا موجة الثورات، بعد أن استفادوا من مغانم السلطات طويلاً ثم سارعوا إلى تلقف ثورات الربيع العربي وركبوا موجتها، مثل معظم ضيوف القناة.

على سبيل المثال لا الحصر هناك الشخصية الوطنية المعارضة (هيثم مناع) الذي أُقفِلت بوجهه تماماً منابر الجزيرة والعربية و(السكاي نيوز العربية) وغيرها، فقط لأنه وقف ضدّ السلاح وبقي متمسكاً بالمعارضة السلمية عبر وسائلها المعروفة، وفضح محاولات إدخال السلاح إلى سورية منذ الأيام الأولى للاحتجاجات الشعبية فيها.

أما عن إعلامنا فحدٍّث ولا حرج، تكاد تتقيأ من تكرار اللون الواحد والشعار الواحد والنغمة الواحدة منذ عقود، وبذلك ساهم في إبعاد المواطن السوري تماماً عنه بعد أن فقد أي ثقة بما يقول حتى في النشرة الجوية، كما قال الراحل ممدوح عدوان يوماً.

أرى أن الموضوع بحاجة إلى تغيير في البنية الفوقية أولاً، الثقافة والتربية والسياسة، وستليها حتماً تغييرات في البنية التحتية والتفكير المجتمعي ولو بعد حين، فعبارة (كما تكونون يولّى عليكم) لم تعد صحيحة في هذا الزمن، بل تحولت بفعل الأنظمة الشمولية والتأثير الكبير للإعلام والتواصل وصنع الرأي العام إلى مقولة: (كما يولّى عليكم تصبحون).

وإلى أن يبدأ التغيير يتغلغل في مجتمعاتنا ونظمنا الثقافية والسياسية سنبقى أسرى للرأي الواحد والصوت الواحد خوفاً او طمعاً، ولن يكون فيها مكان واسع للرأي الآخر.

العدد 1105 - 01/5/2024