اختيار الشريك.. العنف الصامت ضد المرأة

حسين خليفة:

كثيرون يتذكرون الشاعر عمر الفرّا_ رحمه الله_ وقصيدته التي (ضربت) وكانت من أسباب شهرته الواسعة، قصيدة حمدة، الفتاة التي ترفض الزواج من ابن عمّها إرضاءً لرغبة القبيلة:

(لاني نعجة تشتريها..  ولاني عبدة من عبيدك.. ما أريدك.. حتى لو تذبحني بيدك!).

القصيدة على بساطتها صرخة فتاة ترفض حكم القبيلة والعائلة بتزويجها من ابن عمها شاءت أم أبت.

لكن، هل أثّرت هي وغيرها من الصرخات على سلطة القبيلة والأعراف والعادات و(هذا ما وجدنا عليه آباؤنا)؟!

هل أثّرت على وعي الجمهور نفسه الذي كان يتناقلها ويحفظها ويصفق للشاعر في الأمسيات والحفلات؟!

أستطيع أن أجزم أنها لم تزعزع وعي هؤلاء الناس وقناعتهم بضرورة أن تكون بنت العم لابن العم، ثم يتناقلون القصيدة وغيرها ويحضرون المسلسلات التي تدين هذا السلوك، ويقرؤون الكتب التي تدعو إلى نبذها، لكنهم ما إن يختلون بـ(ربعهم) حتى يعودوا أفراداً طائعين عائدين إلى حظيرتهم الأولى.

طبعاً الأمر ليس حقنة مضادّة للتخلّف والهمجية في التعامل مع المرأة وإكراهها على اختيار الشخص الذي سيكون الأقرب والأكثر حميمية إلى روحها، فلن يستطيع نص أو قصيدة أو لوحة أو أغنية أو رواية أو عمل درامي أن ينقض بُنىً عشّشت وتجذّرت في وعي الناس، الأمر يحتاج إلى عمل تراكمي طويل النفس، يحتاج قروناً للتحرّر من هذه الأعراف والأخلاقيات الخاطئة مجتمعياً وثقافياً.

تخيّل أن يختار لك أحد ما تلبسه مثلاً!

كم سيكون الأمر قاسياً وبشعاً ومرفوضاً بالنسبة إليك!

أو أن يختار مكان سكنك، أصدقاءك، دراستك، عملك، الموسيقا التي ستسمعها، الأفلام والمسلسلات والمسرحيات التي ستشاهدها، الكتب التي ستقرأها… الخ.

كل هذه الأشياء يرفضها الإنسان بعفويته وطبيعته.

كيف إذاً حين يأتي أحدهم: أبوك أو أمك أو أخوك أو عمّك أو الشيخ أو المجتمع، ليلزمك بالشخص الذي ستمنحينه روحك، وتقاسمينه دفء الفراش، وحميمية اللحظات الأجمل من حياتك، ثم يصبح أباً لأولادك والآمر الناهي عليك وعلى العائلة؟!

أيُّ عنف أقسى من هذا العنف الذي يمكن أن نسمّيه (العنف المديد) فهو يستمرّ مدى الحياة.

إنّ إجبار الفتاة على الزواج ممّن لا ترغب فيه، أو ترفضه، أو لم تقم هي باختياره بملء إرادتها، هو أحد أقسى أشكال العنف ضدَّ المرأة، وما زال إلزام الفتيات بالزواج خارج رغبتهن سارياً في كثير من الأوساط الاجتماعية (الريفية والبدوية خاصة). لكن في الأوساط المدينية، التي يمكن القول إن هذه العادة تكاد تنحسر فيها، ما تزال أشكال من العنف تمارَس ضدَّ المرأة في موضوع اختيار الشريك.

ففي مجتمعنا السوري المعروف بتعدّد أديانه وطوائفه الدينية والمذهبية المتداخلة في مناطق عيشها وسكنها ونشاطها الاجتماعي والاقتصادي، يحدث كثيراً أن تختار فتاة شابّاً من خارج الدين أو الطائفة، عندئذٍ تستنفر كل السلطات الدينية والاجتماعية لاعتبار هذا الزواج خطراً على (نقاء) الملّة وخصوبتها وبقائها!!

وفي بعض الطوائف لا يهدأ الشرف الرفيع حتى تُقتل الفتاة التي تزوجت بمن تحب حسب الشرائع والأديان، والأمثلة هنا كثيرة ومعروفة.

وتصطف قوانين الأحوال الشخصية إلى جانب رجال الدين و(حرّاس الطوائف) ولو بشكل غير مباشر.

تخيّل أن شابّاً من إحدى الطوائف الإسلامية، عندما يريد الزواج بفتاة مسلمة من غير طائفته، عليه أن يثبت عند القاضي بوثيقة مكتوبة تركه لطائفته واعتناقه المذهب الإسلامي السني تحديداً!!

وعلى سيرة تغيير الطائفة فقد حدث مع أحد الأصدقاء أن تزوج فتاة من غير طائفته، وحين طلب منه القاضي الشرعي أن يوقع على وثيقة تركه للطائفة واعتناقه المذهب الإسلامي السني، طلب الشاب بكل أدب من القاضي أنه ما دام قد ترك مذهب آبائه وأجداده ليقترن بمن يحب، فهل هناك مانع أن يكون (ارتداده) إلى مذهب حبيبته (وهم أيضا مسلمون)، فزجره القاضي آمراً إياه بالالتزام بالأدب واختيار ما يرتئيه القانون (العصملي).

الأمر نفسه ينطبق على شاب مسيحي يريد الزواج من مسلمة، عليه حكماً أن يُشهر إسلامه، لأن الأولاد يُنسبون إلى آبائهم ولا يجوز أن تنقص أمة الإسلام ولو فرداً واحداً!!

أما في الحالات المعاكسة، أي أنّ تتزوج فتاة غير مسلمة من شاب مسلم، فيمكنها البقاء على دينها أو مذهبها ما دامت الأمور تحت السيطرة، والرجال قوامون على النساء، والأولاد سيكونون من أمّة الإسلام نسبة لأبيهم!!

أيّ تمييز قائم على الجنس والدين هذا؟!

أيّ عنف هذا الذي يرتكبه المجتمع والقانون على الفتاة؟!

إن من بديهيات حقوق الإنسان أن يختار الإنسان شريك حياته دون ضغوط أو حدود دينية أو طائفية أو عرقية… الخ. وهو ما نفتقده في مجتمعاتنا، وربما نحتاج وقتاً طويلاً، وسلطات جريئة لا تجامل التنظيمات الدينية، ولا تساير رجال الدين، وتغضُّ النظر عن استبدادهم بالمجتمع مقابل أن يغضّوا هم النظر عن الاستبداد السياسي المُعمّم الذي تمارسه السلطة، أي أنها مقايضة موضوعها مجتمع بكامله ومستقبل أجيال. نحتاج قروناً وكفاحاً مريراً من قِبل النساء أولاً، والنخب المتنورة ثانياً، حتى نستطيع تجاوز هذا العنف الصامت ضدّ المرأة.

العدد 1105 - 01/5/2024