شؤم ولادة أنثى.. إلى متى؟!

حسين خليفة:

“وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ” ﴿۵۸﴾. قرآن كريم ـ سورة النحل.

لكن هل استطاعت هذه الآية، وهي من الآيات القليلة التي تستنكر النظرة الدونية للأنثى، وغيرها من الآيات المشابهة المنزلة، والتي تحتل المراتب العليا في التقديس، أن تمحو من مخيّلة الناس (عار) قدوم مولود أنثى؟!

جازماً أقول: لا.

ونحن في القرن الحادي والعشرين ما إن يُبَشّر أحدهم بقدوم مولود حتى تنهال عليه التبريكات بداية، ثم يليها فوراً السؤال الطبيعي: أذكرٌ أم أنثى؟! (صبي ولّا بنت؟) وما إن يأتي الجواب من الأب أو الأم بأنها أنثى مع شكر الله على ما أعطى حتى تأتي عبارات أقرب للتعزية: الله يسلمها ويرزقكم بأخٍ لها!! أما حين يأتي الجواب بأنه صبي، فالمباركة تكون قاطعة مانعة ولا يقول أحد فليرزقكم الله بأخت له، حتى لو كان الصبي العاشر في العائلة!!

إذاً، فيما يخص موضوع ولادة أنثى في العائلة يصبح العرف أقوى حتى من الدين، وتسري عقلية وأد البنات، التي كانت سائدة زمن نزول النصوص الدينية، لولا الخوف من عقاب قانوني وديني.

والسبب هو مورِّثات البداوة المستوطنة في خلايانا التي تجعل الذكر أعلى من الأنثى لزوم الغزو والسبي والعمل العضلي، بينما الأنثى مشروع سبيّة أو جارية في أحسن الأحوال، تعمل في المنزل نهاراً حتى تتهاوى ليلاً في سرير رجل شبق يغتصبها مراراً إلى أن تذوي وتموت. هذه القناعة المغروسة في العقل الموروث مشفوعة أيضاً بما يدعمها من نصوص دينية واضحة وصارمة، فالنص الديني فيه ما يرضي جميع الأطراف، مثل قول أم مريم لربها بعد أن كانت قد نذرت له ما في بطنها: (فَلَمَّا وَضَعَتهَا قَالَت رَبِّ إِنِّي وَضَعتُهَاۤ أُنثَىٰ وَٱللَّهُ أَعلَمُ بِمَا وَضَعَت وَلَیسَ ٱلذَّكَرُ كالأنثى وَإِنِّي سَمَّیتُهَا مَریَمَ) الآية 36 من سورة آل عمران.

إن أول عبارة تُرمى في وجه من يطالب بأي شكل من أشكال المساواة بين المرأة والرجل هو هذا النص الواضح الصريح: وليس الذكر كالأنثى. فيسقط في يده ويقعد ملوماً محسوراً في مواجهة نص مقدّس لا يأتيه الباطل من بين يديه أو من خلفه.

في جميع البيئات الشرقية آلاف القصص والحكايات عن المرأة التي تنجب الإناث مثنى وثلاث ورباع وعشار أيضاً، فتجتمع في المنزل الصغير الضيّق المكوّن من غرفة واحدة غالباً عشيرة بنات، وذلك في محاولة لإنجاب الوريث الذكر حامي حمى العشيرة، دون أن يبالي الرجل الفحل بأنه لا يملك ثمن خبز لهذه العشيرة.

والنتيجة حالما تتجاوز إحداهن العاشرة يزجّها في سوق العمل لتنزف طفولتها وعافيتها وتجلب له ثمن دخانه وخبزه، ثم يأتي الاغتيال بتزويجها طفلة من رجل يخرجها من جحيمها إلى جحيم أسوأ وأبقى!

وحالما يستطيع (الباءة) يتزوج بامرأة ثانية، بل إنّ من يبادر إلى ذلك أحياناً تكون الزوجة الأولى نفسها التي اهترأ جسدها بالحمل المتكرر وأصيبت بمرض نفسي من كلام الزوج وأهله وأقاربه والمحيط بعامة، وكلّهم يحمّلونها مسؤولية إنجاب البنات دون الصبية، وهي ظاهرة من ظواهر العنف ضدَّ المرأة، العنف غير المباشر والأقسى من المباشر طبعاً، مع أنّ علم الوراثة حسم هذا الموضوع منذ قرن تقريباً، بأن الخيط الصبغي القادم من الذكر هو الذي يُحدّد جنس الجنين وليس الخيط الأنثوي، لكنك تحتاج إلى من يفقه ويعقل ويتدبّر.

كثيراً ما قامت الزوجة المُعنّفة (أمّ البنات) بالبحث لفحلها عن زوجة ثانية لعلّه يوّفق بصبي يحمل اسمه ويحمي ملكه، وكثيراً ما تكون المفاجأة مزدوجة: تستمر الزوجة الجديدة بإنجاب البنات وتتعرّض لتعنيف مشابه للأولى، بينما تنجب الأولى (أم البنات) صبياً أو أكثر (سبحان الله) ليصبحوا حرّاس قبيلة البنات والقيمين على حفظهن وحماية شرفهن بعد الأب طبعاً.

في المجتمعات التي دخلت العصر يُحتفى بالمولودة الأنثى أكثر من الذكر أحياناً، للطفها وهدوئها، ولأن هذه المجتمعات تجاوزت النظرة الذكورية المغرقة في القدم والتخلف، وحققت المساواة الفعلية بين المرأة والرجل، وتجاوزت ذلك إلى مساحات أوسع من حرية الإنسان وسعادته.

ما العمل؟ كما يعنون الرفيق لينين كتاباً له ما زال في الذاكرة من كثرة ما أعدنا قراءته في الاجتماعات والندوات.

لست أدّعي امتلاك وصفة للحل، وقد نثر مفكرون وكتّاب وفنانون ومختصون في قضايا الجندر ملايين الصفحات والندوات والأعمال الفنية التي تدعو إلى إلغاء هذه النزعة الذكورية من أذهاننا ثم من مجتمعاتنا، لكنني أطرح مجرد وجهة نظر.

لدينا مفكرون تنويريون يستحقون التحية والدعم أمثال المرحوم الدكتور محمد شحرور، والدكتور محمد حبش أطال الله في عمره، وآخرون كثر، يمكن أن ننشر أبحاثهم ونقيم عنها الندوات واللقاءات الثقافية، وهي تتمحور حول تخليص النص الديني من أثقاله ليصبح ابن هذا العصر، ومن أهم أبواب دخوله العصر هو التخلّص من النظرة الدونية إلى المرأة، فمجتمعنا مجتمع متدين في غالبيته ولا يمكن نقض الفكر الديني من أساسه، بل نقده عبر مفكرين وعلماء من أبناء هذا الفكر.

ثم نُشرّع الأبواب أمام الأعمال الفنية والثقافية التي تعطي للمرأة ما تستحقه من دور، دون أن نعمل فيها مقص الرقيب خوفاً من القوى الظلامية التي تعيش في الماضي وتريد جرّنا إليه.

وقبل هذا وذاك لا بدّ من الالتفات إلى المناهج الدراسية وتعديلها جذريا لتحمل فكر العصر وروحه، فمادة الأخلاق التي يجب وبسرعة أن تصبح بديلاً عن مواد التربية الدينية التي تربّي الأجيال على النصوص المقدّسة، وتشحنهم بالخوف من الحساب وتعلّمهم النظرة الدونية إلى الأنثى، يجب أن يشرف عليها علماء اجتماع ونفس وليس مشايخ يلبسون البذّة الرسمية.

لعلّها تكون البداية لتربية جيل جديد يعتنق العلم والعقل بديلاً عن الحفظ والنقل.

حينئذٍ ربما يتحقّق ما نصبو إليه من مجتمع متحرّر وحر يكون أبناؤه أحراراً متساوين في الحقوق والواجبات بغضِّ النظر عن الجنس أو العقيدة أو الرأي.

 

العدد 1105 - 01/5/2024