المثلية.. ظاهرة تفرض ذاتها!

إيمان أحمد ونوس:

احتّلت الحياة الجنسية للإنسان حيّزاً كبيراً من الاهتمام باعتبارها ذات صلة وثيقة باستمرار النسل البشري على الأرض من جهة، ولأنها حالة وحاجة طبيعية لدى عموم البشر من الجنسين. ولهذا، ومع تطور الحياة البشرية تنوّعت الدراسات والأبحاث التي تناولتها على مرّ التاريخ، لاسيما حين خرجت هذه العلاقة عن مسارها الطبيعي والفطري المعهود ما بين الجنسين، وتحوّلت إلى اتجاهات مغايرة أو مخالفة للطبيعة كما يقولون عنها، وحسبما وردت في العديد من السير الشخصية لمشاهير أو زعماء حول العالم كانوا قد عاشوا حياتهم الجنسية مع قرين من جنسهم، وهو ما يُعرف اليوم بالمثلية. ففي كتابه (تاريخ المثلية) يقول عالم الاجتماع الفرنسي (ميشيل فوكو) إن أول تعرّفٍ للعالم على مصطلح (مثلي الجنس) كان أواخر القرن التاسع عشر، عندما أرادت الملكة فيكتوريا حمل رجال الطبقة الأرستقراطية في المجتمع البريطاني آنذاك على التوقّف عن ممارسة الجنس مع الذكور، ولأنها كانت مستاءة جداً من الموضوع، فقد كلّفت الأطباء، في ذلك الوقت الذي لم يكن فيه اصطلاح تعريف لهذا النوع من العلاقات بعد، بدراسة تلك الظاهرة لإيجاد علاج لها، فاخترعوا لها لفظاً مُعاكساً لكلمة (مثلي الجنس) واختاروا توصيف (مُغاير الجنس) الذي لاذت به العديد من الدراسات والأبحاث الطبية والنفسية التي بدأت تهتم بالموضوع  أولاً من الناحية البيولوجية من حيث أسبابها ونتائجها، واعتبارها نتيجة خلل جيني في الموّرثات وسواها قد تؤدي ثانياً إلى حالة نفسية مُضطّربة يعيشها من لديه هذا الخلل. لكن هذه الدراسات والأبحاث قد بقيت في إطار المُهتمّين والاختصاصيين المعنيين بدراسة الحالات التي تعترضهم لا أكثر، وبذلك لم تأخذ طريقها إلى الشهرة إلّا أواخر القرن العشرين حين تعالت أصوات بعض المدافعين عن حقوق الإنسان الذين اعتبروا أن المثلية حق طبيعي من حقوق أولئك الأفراد الذين يشعرون بميل جنسي مُغايرٍ للطبيعة لا يجوز أبداً وصفه بالشذوذ.

هنا بدأ الصراع ما بين أنصار المثلية ورافضيها، وقد وصل إلى مستويات عليا دفعت بابا الفاتيكان للاعتراف بهم وبحقوقهم رغم أنه لا يمكن للكنيسة عقد قران لأيٍّ منهم، مُشدّداً على ضرورة احترامهم واحترام خياراتهم في الحياة. كما سنّت بعض الحكومات الأوربية التشريعات الخاصّة بهم، مثلما تمّ إقامة حفلات زواج لهم رغم معارضة الكثيرين في تلك المجتمعات. أمّا في مجتمعاتنا الشرقية التي تتعامل مع المسألة الجنسية كـ(تابو) ممنوع تناوله والاقتراب منه حتى فيما يخصّ العلاقة الزوجية، فلقد حاربت المثليين وسنّت القوانين الرادعة التي وصلت في بعض الدول إلى الإعدام، باعتبارهم يخالفون الطبيعة التي فُطِرَ عليها البشر، مثلما يسعون إلى تهديد وتخريب القيم الأخلاقية والمجتمعية.

لا شكّ أن أي إجراء قانوني فيما يخص هذا الموضوع لا يمكن أن يُلغيه، بل سيجعله متخفّياً تحت أجنحة الظلام، ومُستتراً بعيداً عن الأعين المُترصّدة حتى تحين الفرصة المناسبة، وهذا ما حصل في بعض المجتمعات في العقود القليلة الماضية، حيث باتت تلك الحالة عادية لمعتنقيها أو المؤمنين بها، الذين باتوا يُعلنون عن أنفسهم وميولهم بلا مواربة أو خجل، مثلما يُطالبون باحترام ميولهم كأحد حقوق الإنسان في الشرعة الدولية، لاسيما أن هناك منظمات حقوقية ترعاهم وتدافع عن وجودهم وحقوقهم وتعمل على منع تجريمهم أو ازدرائهم في كل المجتمعات.

وانطلاقاً من هذا الوضع والواقع، لا بدّ لمجتمعاتنا والجهات المسؤولة عن التربية فيها من التعامل مع تلك الظاهرة بشكل عقلاني علماني وعلمي، من خلال إدراج مادة التربية الجنسية في المناهج التعليمية بغية إيصال المعلومات التي يبحث عنها اليافع والمراهق بشكل لائق وعلمي ليس فيه تشويه أو ابتذال، كما على الأهل والمُربين الانتباه لأطفالهم واهتماماتهم وميولهم منذ السنوات الأولى لمعرفة الأسباب الكامنة خلف أيّة ميول لا يرونها طبيعية، إذ لا يُجدي مطلقاً التّلطّي خلف خوفنا ورفضنا فقط، مثلما لا يمكن أن نحجب بعض الظواهر المجتمعية والتربوية خلف غربال لا بدّ ستنفذ منه يوماً.

العدد 1105 - 01/5/2024