المأزق المجتمعي الذي يطْبق على راهن شبابنا

يونس صالح:

يجد الشباب السوري نفسه بين أمرين يشكلان الصورة الشائعة في بلادنا المتخمة بالبطالة، سواء كانت بطالة سافرة أو مقنعة، فهو إما في وضع الاعتمادية، بمعنى البقاء في مواقع الطفولة غير المسؤولة، أو من خلال الإلهاء بمختلف ألوان التسلية والإثارة، كي تكال له من ثم التُّهم بالميوعة وغير الجدية، وقلة تحمل المسؤولية، وسواء كان الشباب في موضع الاعتمادية أو موضع الإلهاء، فهو مهدور الكيان، مما يوقع به في مصيدة التعرض لخطر انفجارات العنف الفردي أو الجنوح، أو الوقوع في إغراءات ومصيدة حركات التطرف التدميرية التي تستثمر طاقة الشباب الوثابة المحبطة في مخططات ليست بعيدة عن عبث الأيادي الآثمة الغريبة عن بلادنا.

وهنا تبرز ملامح مأزق في مجتمعنا يتحول إلى مواطن وبؤر تفجير متنوعة الألوان: تطرف في كل الاتجاهات، وأصوليات جامدة، وعنف، أو تبلّد واستسلام واجترار الكآبة والمرارة والجنوح باتجاه ألوان متنوعة من الإدمان الجسدي والعقلي والتوجهات التدميرية.

إن كل ذلك ما هو سوى سلوكيات التفافية على طاقة الشباب، تنتهي إلى تدمير الذات الفردية والذات الجماعية بعد ذلك.

إن هذا المأزق الذي يُطْبق على راهن شبابنا، رغم أنه صورة لما يحدث لكثير من الشباب في العالم المسمى بالنامي، لكن الصورة في تناقضها مع ما يزخر به مجتمعنا من إمكانات تغدو غير مبررة.

وعلى الرغم من المسؤولية المجتمعية عندنا عن إهدار طاقة شبابنا، إلا أن هناك بعداً عالياً عولمياً لا بد من رصده، فالإلمام بمجمل الصورة يجعل من النوايا والإرادات والمخططات للفكاك من مصيدة الإهدار أمراً ممكنا، أو على الأقل محتملاً، خاصة إذا تم إنجاز وتحقيق أحلام حاضرنا ومستقبلنا واستحقاقاتهما لشغل موقع كريم في الحياة المعاصرة.

ولكي ندرك البعد العالمي العولمي فيما يعانيه شبابنا من إهدار، علينا أن نعود إلى ثلاثة عقود إلى الوراء، ففي أيلول عام 1995 اجتمع في سان فرنسيسكو في الولايات المتحدة الأمريكية حشد من قادة الفكر والسياسة في العالم، لمناقشة موضوع مستقبل العمل في العالم، وحمل هذا الحشد من القادة اسماً براقاً هو (تكتل الأدمغة) وكان هذا التكتل بدعوة من زعيم الاتحاد السوفييتي المنهار، صاحب شعار البيريسترويكا، أي إعادة البناء، ميخائيل غورباتشوف، والأمر برمته يدعو إلى التعجب، لكن مسار المناقشات كان مدهشاً بينما المجتمعون يرسمون مخططات عامة لنظام اجتماعي جديد، بدا أن كل الحاضرين قد أجمعوا على أن مجتمع القرن الحادي والعشرين المزود بالتقنيات المتقدمة والاستثمارات الجبارة المعتمدة على أقل عدد من العمالة فائقة المهارة والتدريب، سينال فرصة العمل فيه 20% فقط من المجموع العام. أما البقية 80% فسيتوقف حظهم عند البقاء في حالة أشبه بالتنويم المغناطيسي، أو التخدير، ينالون الحد الأدنى لمواصلة الحياة مع جرعة كبيرة من التلهية!

كانت هذه الرؤية المستقبلية تقوم بتحديد معالم الطريق إلى القرن الحادي والعشرين، ولقد رأت أن الطاقة البشرية القادرة على العمل ستتوزع مستقبلاً ما بين 20% يعملون و80% عاطلين عن العمل، وقد أطلقوا على هذا المجتمع تسمية مجتمع الخمس، وفي هذا المجتمع الذي يعيش أربعة أخماسه مخدّرين على فتات الطعام والمأوى ووفرة التسلية، سيكون الشباب أول الضحايا، ولأنهم الأغلبية في مجتمعنا، فإنهم سيكونون الأغلبية أيضاً في كتلة المخدرين.. وفي هذا السياق لابد من الإشارة إلى موجة انتشار وتكاثر القنوات الفضائية التجارية ذات التوجهات الترفيهية المبتذلة في الكثير منها، وقد فرضت معاييرها وتوجهاتها على بقية المحطات الرسمية التقليدية نظراً لجاذبيتها المخاطبة للغرائز، مقابل الرتابة والقحط في برامج قنواتنا الرسمية.

إن رسم صورة الإهدار الذي يعيشه معظم شبابنا ليس الهدف منها إحباطهم، بل الهدف هو التنبيه إلى خطورة ما تعكسه الصورة، فالشباب كتلة حرجة بحكم العمر، وهذه الكتلة إما أن تنتج طاقة بناءة تثري الحياة في الحاضر، وتؤسس للبقاء في المستقبل، أو تنفجر عنفاً ينسف الذات وينسف الآخرين في محيطها وينسف الحاضر ومعه المستقبل، وهي قضية بالغة الخطورة لا ينبغي فيها الاستسلام لسيناريوهات العولمة المتطرفة التي ترسم لنا طريق مجتمع الخمس كسبيل وحيد للحياة في القرن الحادي العشرين، ولا أن نمرّر بلا مبالاة ابتذالات وكلاء استراتيجيات الإلهاء المحليين، الذين تحركهم غريزة الربح المسعور ولو على أشلاء المجتمع، ولا نقول كذلك بسياسة القمع والمنع، بل نقول بضرورة إيجاد البدائل لاستيعاب طاقة شبابنا وتفعيل طموحهم، وتهيئة الفرص لهم لتحقيق طموحاتهم.

 

العدد 1104 - 24/4/2024