واقع اليوم.. تراث المستقبل

إيناس ونوس:

_ كثيراً ما تنتابني الرغبة في السير مساءً وحيدةً في شوارع المدينة التي أحب، لا سيما في فصل الشتاء وتحت المطر تحديداً، غير أن الحفر الملأى بالطين والكم الهائل من النفايات والأوساخ المُكدّسة هنا وهناك، أضف إلى السيارات التي تمضي غير آبهةٍ بمن تمطره بطريقها بما تجمّع من أوحال في تلك الحفر، تمنعني من أن أطاوع نفسي في تلبية رغبتها.

البارحة، أثناء مسيري في الشارع، استذكرت حديثي مع أحد أصدقائي وهو محترف تصوير فوتوغرافي ذات يوم عن ألوان صوره المنتقاة بعنايةٍ وفنٍّ كبيرين، واستفساري ما إن كان يستخدم برامج معينة لتبدو صوره واقعية جداً وبألوان أقرب إلى الحقيقة، وكان جوابه بالنفي، وبأن المناطق والأماكن التي يصورها ذات طبيعة نظيفة وألوان خلّابة حقيقية، فتساءلت: لماذا لا نعيش في مثل هذه الطبيعة النقية؟

_ لحظة هدوء، بعد يوم مضطّرب مشحون بالمعاناة اليومية والعمل والهموم، عدت إلى بيتي راغبة في الجلوس بهدوء تام لا يعكّر صفوه أيما صوت، وتهيَّأت لهذه الاحتفالية البسيطة والعظيمة بآن واحد، ما هي إلا ثوانٍ معدودة حتى انفجر الكون من حولي، فانقطاع المياه في الحي يجبر الجيران على تشغيل المولّدات في محاولة لجرّ المياه إلى بيوتهم، وأخذت الأصوات تتعالى من كل حدب وصوب، معزوفة موسيقية صاخبة تدعوك إلى الجنون بامتياز.

_ ابنتي الصغيرة تحب الغناء، وتطلب مني أن أصغي إليها في كل مرة تحفظ بها أغنية جديدة، وأن أتفاعل مع أدائها وأن أحفظ معها كلمات الأغنية، لكنها تمنعني من أن أدندن معها أنغام ما تشدو به، اليومن جلست مستعدّةً لأستمع كالعادة، غير أنها باغتتني بأغنية (مسيطرة.. ح مشيك مسطرة)، بعد بضع كلمات انتبهتْ إلى فمي مشدوهاً وعيني تكادان تخرجان من وجهي لشدّة الذهول، واستطاعت ملامحي أن توقفها عن الغناء، متسائلةً: ماما، ما بك؟ استجمعت أفكاري قائلةً: منذ متى نستمع لهذا النمط من الأغاني؟ ومنذ متى تشدين بمثل هذه الأغاني؟! وبعد نقاش مثيرٍ للهلع استنتجت أن أبناءنا قد تلوّثوا سمعياً وفنياً بما يكفي، وأنهم ابتعدوا عن براءة أغاني الطفولة بشكل يدعو للأسى والقهر.. ومما يدعو إلى القلق وجود محطّات تلفزيونية موجّهة للأطفال فقط تعتمد هذا النمط من التلويث السمعي والبصري بطريقةٍ ممنهجة ومدروسة عبر توظيف بعض الأطفال لتقديم صورة لا علاقة لها بالطفولة البتّة.

_  رافقت والدتي للتسوّق وشراء بعض الحاجات، استمر مشوارنا قرابة الساعة فقط، انتهى بعودتنا خائبتين خاويتي الوفاض ممّا كنّا نود شراءه من الألبسة، فمناظر واجهات المحلات المكتظّة بما يسمّى ألبسة لم يستطع أن يثير فينا إلاّ الاستهجان والاشمئزاز ممّا يُعرض فيها بأسعار تُحلّق في الارتفاع.. كالبنطلونات الممزّقة، والبلوزات التي خيطت بشكل يدعو لإثارة الغرائز المجنونة، وغيرها من الأشكال والألوان، وحين علمنا من الباعة أن هذه الألبسة يكثر الطلب عليها رغم أسعارها، وأنها تُعتمد كلباسٍ للعمل أو للدوام في الجامعة وفي أي وقت من اليوم، وليست مخصّصة للحفلات أو المناسبات الخاصة، ازداد الاستغراب والدهشة، وشعرنا أننا كائنين من عالمٍ آخر يختلف كلياً عن العالم المحيط بنا، وقررنا أن نعود ونبحث بين ألبستنا القديمة عمَّا يمكن أن يخدمنا، متسائلتين عن الهدف الحقيقي من وراء كل هذا التلوث بشتى مناحيه، وهل هذا هو ما سيكون تراثنا للمستقبل؟!

العدد 1104 - 24/4/2024