الهجرة والاغتراب.. هل هي ظاهرة إنسانية؟!

يونس صالح:

كانت أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين عصر الهجرات البشرية الضخمة من أنحاء كثيرة في العالم إلى أمريكا وأستراليا وكندا وبعض دول أمريكا الجنوبية. ويبدو أن بدايات القرن الحادي والعشرين تشهد عصراً جديداً من الهجرات البشرية من كل أنحاء العالم وإليها، وعلى نطاق أوسع بكثير جداً من كل ما عرفه تاريخ الإنسانية، فالهجرات البشرية ليست ظاهرة حديثة، بل هي ظاهرة موغلة في القدم لازمت الجنس البشري منذ ظهوره، وكانت هي الأداة التي أدت إلى عمران الأرض وقيام المجتمعات الإنسانية في مختلف قارات العالم. وإن كل الدلائل تشير إلى أن هذه الزيادة في الهجرات هي مجرد بداية لاتجاه عام سوف يتسارع خلال هذا القرن، نتيجة للتدهور السريع في الخصوبة في الدول الأكثر تقدماً، وارتفاع معدلات التحضر والتغيرات التكنولوجية وقوى التكامل الاقتصادي والعولمة.

وتكاد لا تخلو دولة واحدة من دول العالم من وجود عدد من المهاجرين إليها من مجتمعات أو مناطق أخرى غريبة، مما يعطي لهذه الظاهرة بعدها العالمي المميز. ويمكن التأكيد أن قضية الهجرة هي قضية التحدي للبحث عن حياة أفضل، والصراع من أجل تحقيق نوعية من الحياة يشعر فيها المرء بكرامته كإنسان له حقوقه على المجتمع الذي يعيش فيه، وإلا فأرض الله واسعة، والواقع أن التحديات العالمية التي تمثلها الهجرات الدولية تفترض وجود مدخل عالمي لمعالجة المشكلة التي تضم أطرافاً عديدة ذات مصالح متضاربة، وهذا يتطلب دون شك الأخذ في الاعتبار عدداً من الأمور التي تحتاج إلى إمعان النظر فيها.

الأمر الأول هو أن الهجرة ظاهرة اجتماعية واقتصادية لها أبعادها التاريخية القديمة جداً، والتي تتعلق بشكل مباشر بالرغبة الطبيعية عند الإنسان في التنقل والتغيير والاكتشاف من ناحية، والبحث عن مستويات أفضل للمعيشة والحياة، وتوفير درجة أكبر من الأمن والأمان من ناحية أخرى. وإن أية محاولة لوقف هذه التحركات البشرية عن طريق سن القوانين وفرض العقوبات ووضع المعوقات والحواجز لن تؤدي إلى الأهداف المرجوة منها.

الأمر الثاني يكمن في أن الهجرات البشرية، وبوجهٍ أدقّ هجرة الأيدي العاملة بحثاً عن العمل، هي في جوهرها عملية عرض وطلب، تقوم فيها مجتمعات العالم الثالث الذي يعاني من التخلف بعرض ما لديها من وفرة في الأيدي التي لا تجد في أوطانها الأصلية فرصاً للعمل تكفي لاستيعابها، في الوقت الذي تعاني مجتمعات العالم المتقدم من نقص في الأيدي العاملة الكفيلة بتحقيق مستويات الإنتاج المطلوبة، لضمان استمرار الازدهار الاقتصادي الذي بلغته تلك المجتمعات، وعلى ذلك فإن هذا النمط من الهجرة الدولية من شأنه أن يحقق فائدة مزدوجة للمجتمعات المصدّرة للأيدي العاملة التي تتخلص من فائض العمالة العاطلة أو غير المنتجة، وللمجتمعات المستقبلة لتلك العمالة الوافدة التي تساعد بجهودها في المحافظة على الإنتاج.

الأمر الثالث هو أن هجرة الأيدي العاملة على النطاق الواسع الحالي تؤلف جزءاً من ظاهرة العولمة، التي هدمت الحدود بين الدول، واستجابت لضغوط الأعداد الهائلة من البشر الذين يعبرون الحدود الدولية بطرق مشروعة أو غير مشروعة بحثاً عن العمل، أو طلباً للجوء السياسي.

الأمر الرابع ويكمن في ضرورة الاعتراف بأن الهجرات المشروعة إلى دول الغرب المتقدم من شأنها زيادة حيوية تلك الشعوب التي تتجه نحو الشيخوخة السكانية، وإذا كان سكان الدول المتقدمة يعيشون الآن لفترات أطول من السابق، بفضل التقدم العلمي والرعاية الطبية وغيرها، فإنهم لم يعودوا ينجبون من الأطفال العدد الذي يكفي لتعويض الفقر في السكان نتيجة الوفاة، وهذا يكشف عن مدى احتياج ذلك العالم إلى الأيدي العاملة النازحة من الخارج، على الرغم من كل الضجيج الذي يثار ضد الأغراب.

الأمر الخامس الذي ينبغي أن يؤخذ في الحسبان إزاء الوضع الحالي والمستقبلي لظاهرة الهجرات البشرية المتفاقمة هو أن متطلبات العولمة وازدياد حركات التدفق البشري عبر الحدود الدولية هروباً من أوضاع اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية قاسية يمثلان نوعاً من التحدي للمجتمع الدولي حول أسلوب التعامل مع هذه الظاهرة.

إن المهاجرين، على الرغم من دورهم المهم في تحقيق الازدهار والتقدم الاقتصادي في الموطن الجديد، فإنهم يظلون من وجهة النظر القانونية في كثير من الأحيان جماعات دخيلة مشكوكاً في ولائها وانتمائها إلى المجتمع الجديد، ولذا تكاد لا تجد ولو قدراً بسيطاً من الرعاية والحماية التي يحظى بها السكان الأصليون، وذلك نتيجة لعدم تطور المستويات القانونية الدولية الخاصة بحماية حقوق المهاجرين، والواقع أن (اتفاقية هيئة الأمم حول حماية كل العمال المهاجرين وأفراد عائلاتهم) لم تدخل حيز التنفيذ تماماً، وتشير الدلائل كلها إلى أن الوضع في هذا القرن، القرن الحادي والعشرين، سيكون معقداً تجاه هذه المسألة، في ضوء التغيرات التي تطرأ على المجتمعات المتقدمة التي تتجه إليها تلك الموجات العارمة من المهاجرين من العالم الثالث بشكل خاص، وكذلك في ضوء الرفض الشعبي في العالم الغربي لهؤلاء الوافدين، والعوائق والإجراءات والقوانين المانعة التي تلجأ إليها الحكومات الغربية للحد من ذلك التدفق.

بيد أن هناك شعوراً عاماً الآن في بعض الأوساط المهتمة بمشكلات الهجرة البشرية هو أن السماح بدخول الوافدين الأجانب واندماجهم في النسيج الاجتماعي الخاص بالمجتمع المستقبِل من شأنه أن يحل كثيراً من المشكلات التي يواجهها المهاجرون واللاجئون والسكان الأصليون، والتي تثير القلاقل في تلك المجتمعات.

وأخيراً إن هذه المشكلة تبقى قائمة، ومن المؤكد أن يستمر الشد والجذب بين الرغبة في تمثيل المهاجرين في المجتمع الجديد، وتمسّك المهاجرين بمقومات شخصيتهم الوطنية حتى لا يتحقق انصهارهم، والأغلب أن يستمر ذلك لعدة أجيال، إلى أن تصل المجتمعات المستقبِلة للوافدين إلى صيغة تسمح بالتعدد الثقافي وقبول الآخر.

 

العدد 1105 - 01/5/2024