أن تكون أنت

حسين خليفة:

(لا أحبّ الأطفال لأنهم يكبرون)_ الشاعر الذي مات طفلاً إياد شاهين.

 كيف يمكن أن تبقى طفلاً وأنت تودّع العقد الخامس من عمرك؟!

بل أن تموت طفلاً وقد بلغتَ من العمر ما بلغت؟!

فقط كن حقيقياً، كن أنت فحسب!

هي وصفة بسيطة لكنها صعبة، بل تكاد تكون مستحيلة في زماننا هذا.

أن تقول وتكتب ما تشعر به حقيقةً حيال الآخرين: المجتمع، الحكومات، السلطات، الأحزاب، الناس، زملاء العمل، الأصدقاء الطيبين، الأصدقاء الخبثاء المقنّعين بقناع الطيبة، زوجتك، أولادك، عائلتك الأولى…

أليست اجتراحاً لا قِبَلَ لأحد به.

أدّعي أننا ما إن نتجاوز سنَّ الطفولة الأولى حتى نبدأ بالتدرّب على أن نصبح ممثلين في مسرح واسع هو الحياة.

طبعاً تختلف نسب النجاح بين شخص وآخر، البعض يتخرّجون بدرجة امتياز، هؤلاء هم الناجحون في الحياة، الذين يحقّقون ما يريدون كلّه: الثروة، السعادة، المراتب العليا في المجتمع والعمل… الخ.

البعض الآخر ينجح بدرجة متوسطة، هؤلاء هم الطبقة الوسطى، هؤلاء هم (النورم) الطبيعي من البشر، الغالبية العددية.

تجدهم يصارعون الأنواء، يحقّقون بعض ما يريدون حين ينجحون في الخروج من براءة الطفولة، ويمارسون ما يطلبه المحيط العائلي والاجتماعي والسلطوي، لكنهم يتعرضون الى نكسات ما إن يشدّهم الحنين الى موقف طفولي يصرخون فيه: الملك عارٍ، إنه عارٍ! فيدفعون ثمنه تراجعاً حيناً أو انهياراً أحياناً.

البعض القليل الذي يفشل في درس التمثيل يمضي حياته وهو يصارع موج الحياة الهادر، ثم يموت سريعاً تلاحقه عبارات الإعجاب والمديح من الآخرين: يا إلهي، كم كنّا نتمنّى أن نكون مثله!!

الناس يبحثون عمّن يعوّض ما يفقدونه من براءة، من انحياز للحقيقة، من رفض للظلم والكذب ونبذ للاعتداء على حقوق الآخرين، بمحاولة ابتداع قصص وحكايات يكون بطلهم فيها هو الشخص الذي يحاولون خنقه داخلهم حتى لا يخنقهم هو بخروجه إلى العلن ومعاندته لكل ما يحيط به.

كما لو أننا نبحث عن أساطير وأبطال أسطوريين نرمّم بسيرهم انكساراتنا وخيباتنا، نُكلّفهم بما نعجز نحن عنه، ونكمل الحكاية.

هذا ما يحدث في الكتابة كما أدّعي.

قد يكون هناك كاتب مغمور يمضي حياته في الهامش، لأنه لا يعرف المجاملات، لأنه يعيش في صدام مع الجميع، لأنه رمى الأقنعة التي عرضت عليه وبقي بوجهه الحقيقي.

لكنه في كواليس الحياة يعيش بوجه واحد، فيما يرفل المتلوّنون في الأضواء، يحوزون الجوائز والأموال، يعجزون عن إحصاء المعجبات والمعجبين.

لكن، من الذي يعيش سعادته الحقيقية منهم؟! السعادة التي تأتي من نصرة إنسان مظلوم، من رسم البسمة على وجوه حزينة، من ترميم عطب روح.

لا بدَّ من الإشارة هنا أنه لا حقائق مطلقة ولا تعميم في الأحكام، فليس كل كاتب ناجح هو متلوّن ومنافق طبعاً، كما أن العكس صحيح، فليس كل الكتّاب المغمورين هم أصحاب مواقف ويكتبون ما يشعرون به.

فهناك الألوف المؤلفة من جحافل الشعراء والقصّاصين والصحفيين والفنانين من ضعاف الموهبة والثقافة يقتحمون عالم الكتابة، وينشر بعضهم مئات المقالات وعشرات الكتب دون أن يتركوا أثراً، فيما ذلك الذي بقي طفلاً نقياً بشغبه وأسئلته لا بد أن يبقى ما أبدعه كتابة أو رسماً أو موسيقا أو دراما.. شاهداً على مروره المضيء في درب الحياة.

فيما يخص تجربتي المتواضعة جداً في الكتابة الصحفية أو الشعرية، فأنا حاولت، وما زلت أحاول، أن أكون قريباً إلى صوت ضميري. وقد شاءت مصادفات الحياة ربما أن أكون يسارياً ومنحازاً للفقراء والمهمّشين، وفي الوقت ذاته بقيت معادياً للبيروقراطية الحزبية والاستبداد العائلي في بعض الأحزاب والحركات الشيوعية، ومعادياً للنفاق والتزلف والانتهازية التي تمارسها فئة كبيرة من الكتّاب والقياديين المنتسبين لقوى اليسار على مختلف تدرّجاتهم وطموحاتهم، وهذا ما أكسبني عداوة كثيرين، عداوة أعتزُّ بها، كما منحَتْني محبةَ الأكثرين، وهي التي أعتزّ بها أكثر أيضاً.

وما زلتُ في هذا الحيّز المتاح لي من (النور)، التي أعتزُّ بها وأحترمها كوادرَ وكتّاباً مع اختلافي الشديد معها، ومعهم، أحياناً، وهذا الاختلاف يغنيني وأدّعي أنه يغنيهم أيضاً، ما زلت مستمرّاً في محاولتي أن أكون صادقاً مع نفسي ومع قرّائنا القلائل للأسف.

العدد 1105 - 01/5/2024