الفقر في أغنى بلاد الله.. ابحثوا عمّن أفقركم!

حسين خليفة:

(كاد الفقر أن يكون كفراً)_ قول مأثور

سنحذف (كاد) من القول المأثور، سنكفر، آن الأوان لأن نجهر بكفرنا الذي تراكم في النفوس طويلاً، وآن له أن يخرج إلى الملأ، سنكفر بكل شيء علمتمونا إياه في المدارس والمنظمات التي استلمت تربيتنا وتدجيننا منذ الطفولة.

دون العودة إلى إحصاءات المنظمات والهيئات المشغولة بإحصاء القتلى والمُغيّبين والمهجّرين والمهاجرين الغرقى أو الناجين ونسب الفقر ومن هم تحت خطّه، ومن هم على الخط، والقليلون الذين يُحلّقون بعيداً فوقه، دون العودة إلى هؤلاء نستطيع القول بثقة مطلقة وبمسؤولية إنّ أكثر من 90 بالمئة من السوريين هم الآن دون خط الفقر بأشواط بعيدة.

نحن نقبع الآن في الهاوية السحيقة التي وعِدنا بها، كنّا نراها ونتجاهلها على أمل أن يهديكم الله قليلاً وتفكّروا بالآخرين، كل الآخرين الذين أذقتموهم الذلّ والحرمان لأجيال، لعلّ بقية ضمير تعيدكم إلى صوابكم وتصلحون أحوال الناس، لكن هيهات!

تسعون بالمئة من شعب، يستطيع إطعام العالم زيت الزيتون، محروم من نقطة زيت على عروسة الزعتر أو صحن اللبنة المغشوش طبعاً بأنواع البودرة أو السبيداج أو الله أعلم.

تسعون بالمئة من شعب كان يُصدّر القمح إلى بلاد جائعة ينتظرون الآن رسالة تكامل ليأخذوا ربطة خبز معدودة عليهم بدقّة حتى لا تزوغ نواياهم ويأكلوا أكثر من رغيف في الوجبة الواحدة.

لن ينتهي سرد المآسي التي يعيشها أكثر من تسعين بالمئة من شعب أطعموه الشعارات لستة عقود حتى انتهى رصيده من مونة البيت ومن عطاء الأرض، فالشعارات لا تسقي زرعاً ولا تعلف دابة.

الفقر في سورية لم يعد ظاهرة عابرة، أو نتيجة لكارثة طبيعية أو حرب أو جائحة، إنه نمط حياة منذ أن تحكّمت برقابنا فئة رأت أن الحقيقة كلها تسكن عندها، وأنّ الآخرين رجسٌ من عمل الشيطان، فطوَّعوا من لم يطوّع بالحسنى سجناً وقهراً، وصاروا يديرون اقتصاد البلد وسياسته وتاريخه كما تعوّدوا أن يديروا كتيبة جنود.

هكذا تقهقرت الزراعة، وانقرضت الصناعات التي كانت تغزو العالم في الخمسينيات من القرن الفائت، بعد أن حوّلوها إلى شركات حكومية خاسرة نتيجة للنهب والفساد والمحسوبيات، تراكمت فيها مخازينها حتى أغرقتها، ثم فتحوا البلد لعلكة سهام والبالون وشركات ماجي ونستلة ومنطاد ومعكرونة دانا ومرتديلا فراس وشركاه، ثم منحوا أكثر من سبعين بالمئة من اقتصاد البلد لشخص واحد، هو ليس شخصاً طبعاً، بل واجهة نهب وتعفيش للاقتصاد.

هذا كله حدث قبل الحرب الكارثية التي شهدتها البلاد لعقد كامل وما زالت مستمرة في جيوب عدّة.

إذاً، ليست الحرب هي ما أفقرت السوريين، إنها سياسات أكثر من نصف قرن في تغييب الحريات والتنكيل بالمختلف الناصح، ورفع المُطبِّل المُتسلِّق الباحث عن فرصة لبناء ثروة شخصية عبر التصفيق والتطبيل، وتمرير الحلول التي تبيح للفئة الناهبة تبييض أموال النهب واستثمارها في زيادة النهب ومضاعفته عبر شركات الخليوي واستيراد الموبايلات والسيارات والمأكولات الفاخرة التي لم نسمع بها مثل الكافيار ومشتقاته وكل ما يلزم لبطر طبقة الأثرياء الجُدُد وإنفاقها، بعد أن نمت وتفرعنت بحماية البيروقراطية المُتنفّذة ورعايتها، تحت دخان كثيف من الشعارات الملونة والجميلة التي بقيت أداة بيدهم لتطويع الأكثرية الصامتة لعلّ وعسى تتحقّق يوماً أو يتحقّق بعضها، فيما تكفّلت الغرف المظلمة بمن لم يطوّع وبقي يقول الحقيقة.

ما فعلته الحرب أنها فاقمت الوضع، وأغلقت الأبواب التي كانوا يسترون بها على نهبهم واستئثارهم بالثروة تحت اسم الثورة والاشتراكية والعدالة والوحدة والتحرير، الأبواب التي كانوا يخفّفون بها من انحدار الأوضاع إلى ما هي عليه الآن من جوع حقيقي يعيشه غالبية السوريين وهم يغلقون الأبواب على جوعهم ويكظمون غيظهم إلى حين.

الفقر ليس عيباً، ولا مسبّة، إن كان نتيجة عوامل الطبيعة أو الغزو أو ظروف طارئة، لكنه عيب وذلٌّ ونقيصة إن جاء بفعل فاعل هو من أبناء بلدك ومؤتمن على مؤسّسات ودستور وقوانين تؤكّد في متنها أن الحكومة مسؤولة عن تأمين فرص العمل الذي يحقق الحد الأدنى من العيش الكريم من مسكن ومأكل وملبس وتعليم وطبابة وغيره، فهل حقّقت الحكومات المتعاقبة منذ زمن أيّاً من هذه الحدود؟!

أنا من جيل الستينيات وذاكرتي ما زالت تُخزّن مشاهد عقد السبعينيات إلى الآن، الأزمات المتوالية في المواد الغذائية والمحروقات والخبز منذ تلك الحقبة، إذ لم يمرَّ يوم إلاّ وهناك أزمة في قطاع ما أو أكثر، واستمرت حياة القلّة والأزمات واللّهاث خلف رغيف خبز أو جرة غاز أو بيدون مازوت أو زيت أو سكر أو…. بين مدٍّ وجزر، إذ ما إن تنتهي أزمة حتى تُطلُّ أخرى أو أخريات برأسها وتطحن المواطن، والعذر جاهز وموجود دائماً لدى الحكومة: المؤامرات، الحصار الإمبريالي الرجعي نتيجة مواقفنا الصامدة، اقتصاد الحرب… الخ.

والله لو تشاركنا نحن وإياكم في هذا الحرمان والفقر والعوز كرمى لعيون الصمود والتصدي لقبلنا فرحين مسرورين، ولعضضنا على جوعنا من أجل التحرير وإقامة الاشتراكية لأجيالنا القادمة، وقهر الإمبريالية والصهيونية والرجعية.

لكن أن تعيشوا أنتم وأولادكم في عالم آخر، في قصور عاجيّة، تعيشون حياة الأباطرة، وتسيطرون على كلّ قطّاعات الاقتصاد تحتكرون استيراد المواد وتصديرها، ونبقى نحن نلوك فقرنا وذلّنا اليومي، فذلك ما لا يقبل به العبيد.

انتبهوا إلى أنفسكم، إلى قصوركم وشركاتكم وبنوككم، فنار الجوع حين تشتعل لن تترك ما بقي في البلد من أخضر ويابس.

هذا ما أردت قوله بخصوص الفقر في سورية مع وصيتي لكم بالاستمرار في الصراخ على الأقّل إن غبتُ أو غُيِّبت، والله من وراء القصد.

 

العدد 1105 - 01/5/2024