السوريون اليوم ما بين الفقر والموت

نور سليمان:

يرجع تاريخ الاحتفال باليوم الدّولي للقضاء على الفقر إلى يوم 17 تشرين الأول (أكتوبر) من عام 1987. ففي ذلك اليوم اجتمعَ ما يزيد على مئة ألف شخص تكريماً لضحايا الفقر المدقع والعنف والجوع، وذلك في ساحة تروكاديرو بباريس، التي وقِّع بها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948. وقد أعلنوا أنّ الفقر يُشكل انتهاكاً واضحاً لحقوق الإنسان، كما أكّدوا الحاجة إلى التّضافر بغية كفالة احترام تلك الحقوق. ونُقشت تلك الآراء على النّصب التذكاري الذي رُفع عنه السّتار ذلك اليوم.

هناكَ عددٌ من الأشكال المتداخلة للحرمان البشري التي لا يمكن تصنيفها بدقّة على أنّها إمّا أسباب أو آثار للفقر، على سبيل المثال: يعتبر الجوع المزمن وسوء التغذية من نتائج الفقر، ويشجعان على اتباع نهجٍ غير مستدام لاستخراج الموارد، ويقلّلان من الانتظام في المدارس وقدرة الطلاب على التعلم، حيث يواجه الفرد أو المجتمع المثقل بمجموعة من المشاكل عمليةَ صعودٍ شاقّة للغاية للخروج من هذا المستنقع الضّحل. وعلى الرّغم من أنّ التنمية الاقتصادية الوطنية هي بحق محور تركيز العديد من برامج مكافحة هذه الأزمة، إلا أنّ أشكال الحرمان المتداخلة الأخرى لا تختفي بالضّرورة مع المكاسب الاقتصادية على المستوى الوطني، كما يُقاس بالنّموّ في النّاتج المحلي الإجمالي (إجمالي القيمة السّوقية للسلع والخدمات النهائية التي يتم إنتاجها داخل اقتصاد ما في عام معين).

علاوة على ذلك فإنّ معالجة المكونات المتعددة المتداخلة للفقر يمكن أن تحقق مكاسب في التنمية الاقتصادية الوطنية تتجاوز تلك التي تحققت من خلال التّركيز الصّارم على التمويل والاقتصاد. على سبيل المثال: غالباً ما تكون أوجه عدم المساواة بين الجنسين التي تميّز العديد من المجتمعات النّامية إهانةً لوجهةِ النّظر الدّولية المتفق عليها بشأن حقوق الإنسان العالمية، ولكنّها أيضاً تحدّ من التنمية الاقتصادية من خلال قمع الإمكانات الإنتاجية للمرأة. وأخيراً، تُلام أحياناً برامج التّنمية الاقتصادية التي تفرضها مجموعات خارجية إلى جانب السّياسات الاقتصادية في العالم المتقدم، على تفاقم الفقر بدلاً من تخفيفه في البلدان النّامية.

يجب أن تتخذ جهود مكافحة الفقر في البلدان النّامية -حيث يكون متوسط ​​الدّخل شديد الانخفاض هو المعيار-، أشكالاً مختلفة بالضّرورة عن جهود مكافحة الفقر في بلدان مثل أمريكا وفرنسا وغيرها التي تتمتع بمتوسط ​​دخل أعلى يترافق بتفاوت أكبر، وهكذا مع استمرار نمو اقتصادات العالم النّامي بمعدلات تفوق نظيراتها في العالم المتقدم، أصبحت الحاجة إلى فهم الديناميات المعقدة للفقر أكثر وضوحاً من أي وقت مضى.

العمالة والفقر:

يُخرج النّمو الاقتصادي النّاس من براثن الفقر في المقام الأول من خلال فرص العمل والأعمال ذات الأجور الأفضل ومن خلال المعدلات الإجمالية للعمالة، وهكذا تباطأ التّقدم الذي تم إحرازه في مكافحة الفقر العالمي قبل عام 2008 وخلال سنوات الأزمة، وارتفعت معدلات البطالة فوق معايير ما قبل الأزمة، لذلك عندما يتمّ استخدام حد أدنى للفقر قدره 2 دولار في اليوم في بعض الدّول الآسيويّة والإفريقيّة، فإنّ هذه النّسب ترتفع بشكل كبير.

الفقر والتّعليم ومحو الأميّة:

يعد الافتقار إلى التّعليم أحد أقوى المؤشرات على احتمال أن يعيش الفرد أو الأسرة في فقر، فالأشخاص الأميّون أو الذين لديهم مستويات تعليم منخفضة هم أكثر عرضة للبطالة من نظرائهم الأفضل تعليماً، وبين العاملين، إذ يتوافق التّعليم الأقل مع احتمالية أكبر للبقاء في حالة الفقر حتّى أثناء العمل. إضافة إلى ذلك فإنّ البلدان التي ترتفع فيها معدلات الأميّة غالباً ما يكون لديها اقتصادات متخلفة. وقد وضّحت اليونسكو أنّه (ببساطة لا يوجد استثمار أقوى أو طويل الأمد في حقوق الإنسان وكرامته، في الإدماج الاجتماعي والتّنمية المستدامة).

في أجزاء كثيرة من العالم، لا توفّر العمالة بالضّرورة طريقاً للخروجِ من الفقر، ففي سورية اليوم يعيشُ المواطنُ ظروفاً معيشيّةً صعبةً ما تلبثُ أن تزدادَ سوءاً. يقول رجلٌ رأيتهُ يقفُ في الشّارعِ بانتظارِ باصٍ يوصلهُ إلى منطقتهِ: هناك أشياء كثيرة نحرم أنفسنا منها. على سبيل المثال: الفاكهة، اللّحوم ممنوعة حتّى الدّجاج والخضار باتَت من الأحلام، افتحِي ثلاجتي وستجدينها فارغة.

فأسعارُ الإيجاراتِ صارمة صادمة، وأسعارُ الأساسيّات باتَت في مستوياتِ قياسيّة من الارتفاع اليوميّ، هوَ واحدٌ من بينِ ملايينِ السّوريّين الذين يعانونَ من الفقر وغلاء الأسعار الفاحش.

تقولُ سيّدةٌ أخرى: لا أحصلُ على خبزٍ يكفيني أنا وعائلتي، فهو خارج الأفران يُباع بأسعار لا أقدرُ على تحمّلِ أعبائِها وحدي.

يعاني السّوريّون اليوم أسوأ أزمة اقتصادية تشهدها البلاد على الإطلاق، مترافقة بانعدام الأمن الشّخصي والأمل في المستقبل. فقد أصبح الإيجار والطّعام والأدوية والوقُود من الأحلام وبعيدينَ عن متناول اليدِ.

إنّنا وبالعودة إلى ما قبل الحرب سنتذكرُ أنّ العديد من العائلات كانت تحفظُ الطّعام ليتسنّى لأفرادها تناولها على مدار العام، فحياتهُم لم تكن سيّئةً إلى هذا الحدّ الذي وصلَت إليهِ اليوم، نتيجة فشلِ الحكومةِ باتّخاذ إجراءٍ يتناسبُ مع دخلهم الضّئيل، مقارنةً بالأسعارِ المريخيّة التي يتباهَى بها تجارُ أسواقنا، فقد أدّى عقد من الصّراعِ والفساد وسوء الإدارة والأزمات المالية الإقليمية والعقوبات، إلى الانهيار الاقتصادي في سورية وارتفاع مستويات الفقر.

ففي هذا العام، يعيش 90 بالمئة من السّوريّين تحت خطّ الفقر، وأكثر من 80 بالمئة يعانون من انعدام الأمن الغذائي. فقد باتَت العائلات تأكلُ أقلّ، وتقطعُ وجبات الطّعام، وتستدينُ لتلبيةِ احتياجاتها الأساسيّة.

العدد 1107 - 22/5/2024