أطفال بغير طفولة

إيناس ونوس:

كلَّما سرتُ في الشَّارع مع ابنتي يدور الحديث التالي دون ملل ولا كلل:

_ ماما، ليش هدول الولاد بالشارع عم يلمّوا زبالة أو عم يمسحوا الأحذية أو نايمين بالشارع؟

= هدول الولاد عم يشتغلوا يا ماما.

_ ماما، هدول الولاد ما عندن أهل؟

= أكيد ماما عندن أهل.

_ ليش ما بتخلّيني اشتغل متلهن؟

= لأنو أنا عم أشتغل، وبس بدّك شي بتقوليلي.

_ يعني هدول الولاد أهاليهن ما بيشتغلو؟

 

هدول الولاد، هدول الولاد…

كثيراً ما تمطرني بسيلٍ من الأسئلة يتلعثم بها لسانها الذي بدأ مؤخراً يتعلَّم النطق، وعقلها الذي بدأ يتفتح على العالم من حوله، لكننا في كل مرة نصل إلى أسئلةٍ لا أتمكّن من الإجابة عنها، تنهشني الغصّة على حال هؤلاء الأطفال وغيرهم ممّن نراهم بشكلٍ مثيرٍ للهلع أينما تلفّتنا، وأشكر الآلهة في كل مرة أن ابنتي لمَّا ترَ بعد إلاّ هؤلاء، لم ترَ من يعملون في سوق الخضار أو في المتاجر والمحلات، أو.. في أماكن مظلمة ومعتمة تعتبر مرتعاً لتفشّي العديد من الأمراض المجتمعية التي باتت علانية كالدعارة والسرقة وبيع الأعضاء البشرية.

ندّدت المنظمات الدولية وتحديداً من يُعنى منها بشؤون الطفولة ولا تزال تندد بعمالة الأطفال مراراً وتكراراً، غير أن ما يجري على أرض الواقع لا يعترف بكل تلك الأصوات ولا بمن ينادي، فالهمّ الأساسي هو الحصول على المال مهما كان الثمن، والعودة إلى عصر الرقيق باستخدام أي شخص يحقّق الفائدة المرجوة حتى لو كان طفلاً.

هذا الطفل الذي إذا قدر له أن كبر وعاش سنوات طوالاً سيتحوّل إلى وحش بشري غير آبه بأحد انطلاقاً من أقرب المقربين.

هذا الطفل الذي لم يعد له أيما ارتباط بالطفولة ومعانيها، بل إنه يهزأ منها وبها وبكل من ينادي من أجل صونها.

هذا الطفل الذي انتُهكت كرامته وبراءته بوقتٍ مبكرٍ جداً، وسرق من أهله ومن عمره ومن أحلامه وألوانه وضحكاته.

هذا الكائن الذي جاء إلى هذا العالم الموحش بغير إرادته، فتحوّل إلى أداة للانتقام من هذه الحياة، وتحمّل مسؤولية أمور لم يكن يعلم بها أصلاً ولا علاقة له بها، فماذا نرجو منه في مجتمعٍ كمجتمعنا يرفضه لمجرّد رؤية شكله أو ردّات فعله دون البحث في الأسباب والمسببات؟

هذا الطفل الذي لم تعد تنفع معه لا العلاجات النفسية ولا التربوية، فهو قد كبر قبل أوانه، كما الخضراوات التي تنمو بمساعدة الهرمونات، شكل دون طعم ولا رائحة ولا فائدة، مهما حاولنا معالجتها وتقليل نسبة المواد الكيماوية فيها لن نصل لأن نجعلها طبيعية مئة بالمئة، بل إن ضررها قد يتطور ويغدو أكبر وأكبر.

هذا الطفل الذي باسمه تقام المؤتمرات الدولية وعلى شرفه تعقد الندوات وتعلن المواثيق دون دراية منه هو صاحب العلاقة الأول.

هذا الطفل/ الإنسان لم يتبقَّ من إنسانيته شيء البتّة، فهل يمكن أن يصحو الضمير العالمي ويُجرّم كل من يساهم في اغتياله ووأده حيّاً؟!

العدد 1104 - 24/4/2024