الأطفال ضحايا الحرب والواقع

نور سليمان:

تُعتبرُ الطفولة من أهمّ المراحل في حياة الإنسان، فهي اللبنة الأولى في بناء المجتمع، وفيها تتشكّل الشّخصية بجميع سماتها وأبعادها ومعالمها، كما تتكوّن القدرات العقليّة والاهتمامات والهوايات، وتكتسب فيها العادات والمهارات وبعض المميزات الانفعاليّة، إضافةً إلى أنماط السلوك التي تميّز الشّخصيّة وتبرزها كهويّة منفردة متفاعلة مع محيطها. وللأسرةِ دور كبير في هذه المرحلة، فهي المسؤول الأوّل عن توفير الرّعاية والأمان والاهتمام الذي يحتاجه الطّفل لينمو نموّاً سليماً وطبيعيّاً.

تعتبرُ دراسة الطّفولة والاهتمام بها من أهمّ المعايير التي يقاس بها تقدم المجتمع وتطوّره، إذ إنّ الاهتمام بها هو في الواقع اهتمام بمستقبل الأمّة كلّها، فتربية الأطفال وإعدادهم بطريقة صحيحة هو إعداد لمواجهة التّحديات الحضاريّة التي تفرضها حتميّة التّطوّر، ولعلّ تزايد قضايا الطّفل والاهتمام به وبحقوقهِ هو ظاهرة علميّة قديمة وحديثة، متجدّدة ومستمرّة لا ينفرد بها تخصّص علميّ واحد، أو فرع من فروع العلم دون الآخر، وإن اختلفت الأطر والمناهج النّظرية والأساليب التّطبيقيّة، ومن أهمّ القضايا التي تلفتُ الأنظار دائماً هي (عمالة الأطفال) التي تمثّل واحدة من الظواهر الاجتماعيّة الخطيرة، والتي ترتبط بدرجةِ تقدّم المجتمع أو تخلّفه، وهي تبدو أكثر انتشاراً في دولِ العالم الثّالث على وجه الخصوص، وتتفاقم في ظلّ سوء الظّروف الاقتصاديّة والاجتماعيّة.

يقدّر المكتب الإحصائي لمنظمة العمل الدّوليّة أنّ أعداد الأطفال العاملين والذين تتراوح أعمارهم ما بين (5-14) عاما،ً يبلغُ أكثر من 12 مليوناً ومعظم هؤلاء الأطفال موجودون في دول نامية، ويعملون في مهن وصناعات خطرة، فغالبيتهم ينشؤون بأجسام نحيلة تستمرّ حتّى مرحلة البلوغ. لقد تمّت إضافة بند يتعلّق بتشغيل الأطفال في كل من اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل، واتفاقيّة منظمة العمل الدوليّة عام 1973م، وقد حدّدت المادة رقم 138 من الاتفاقيّة الحد الأدنى للعمر الذي يُسمَح بعده بالعمل، كما تمّ تضمينه في اتفاقيّة أسوأ أشكال عمل الأطفال 1999م في المادة رقم 182.

هناك ثمانية أشكال رئيسية لاستغلال تشغيل الأطفال في مختلف مناطق العالم، وفقاً لمنظمة اليونيسف ومنظمة العمل الدّولية، منها:

-العمل ضمن ظروف خطيرة إذ قد يتعرّض الأطفال لأضرار لا يمكن علاجها سواء في النّاحية الجسمية كالإعاقات الدائمة، أو من الناحية النفسيّة، ممّا يؤثر على حياتهم في المستقبل.

-أطفال الشّوارع: يُعدّ هذا الشّكل من أكثر أشكال عمالة الأطفال وضوحاً وانتشاراً، ويشمل العديد من الأعمال والأنشطة كتلميع الأحذية، وبيع المواد الغذائية والسّلع الاستهلاكية، وتنظيف زجاج السيارات، وإصلاح الإطارات، وجمع النفايات، والتّسوّل، والعِتالة، وقد يتعرّض الأطفال أثناء عملهم في الشّوارع إلى العديد من الأخطار، كالخطر الناتج عن حركة المرور، أو انعدام الأمن والتعرّض للعنف أو التحرُّش من قِبَل الآخرين.

-عبودية الأطفال: ويختلف مفهوم العبودية عن مفهوم العمل، فيُمكن اعتبار العمل على أنّه أداء نشاط معيّن، أمّا العبودية فلها العديد من الأنواع، منها: العمل الاستعبادي للأطفال في العديد من المجالات، مثل: صناعة السّجاد والمنسوجات، والزّراعة، والمحاجر، وصناعة الطّوب، والاستعباد الأُسري، وفي هذا النّوع يُساعد الأطفال أُسرهم على سداد القروض أو الدّيون المتراكمة على آبائهم من خلال التوجّه للعمل، وهو أكثر أشكال العبودية انتشاراً.

-الاتجار بالأطفال: ما زالت هذه الظّاهرة سائدة إلى يومنا هذا فهي تحصل عن طريق بيعهم وشرائهم، ويتمّ الاتّجار بهم لعدّة أسباب منها: استغلالهم للعمل في المصانع، أو مواقع البناء، أو المتاجر الصغيرة، أو الخدمة المنزليّة، أو التسوّل، كما يتمّ استغلالهم للتّجارة الجنسيّة، وهو ما يُعدّ أسوأ أشكال العمالة، وفي هذا الشكل يتعرّض الأطفال لقدر كبير من الإيذاء الجسمي والنّفسي الذي تدوم آثاره مدى الحياة.

-عمل الأطفال في الأنشطة غير المشروعة أي: الجرائم المختلفة أو أيّ نشاط غير قانوني يتعلق بالأطفال، كإنتاج المخدرات والاتّجار بها، ما يُعرِّضهم للعنف الذي يسبب لهم أذىً نفسيّاً وجسميّاً، وكنتيجة لممارسة تلك الأنشطة يصبح أولئك الأطفال أكثر عرضة للإدمان على الكحول والمخدرات، وبالتّالي إصابتهم بالاكتئاب، الذي يؤثر على تطوير مهاراتهم الاجتماعيّة التي تُمكّنهم من العيش ضمن مجتمعاتهم بصورة صحيحة.

الدّولة وعمالة الأطفال: بالحديث عن هذه الفكرة علينا ألّا ننسى آثار الحرب السّوريّة على جيل الأطفال الذي تأثّر بشكلٍ كبير وخلّف آثاراً مريعة، فقد جعلَت حياتَهم ومستقبلَهم معلّقين بخيط رفيع بين الحلمِ والواقع، ففي هذهِ الحرب لا يوجدُ منتصرٌ بل على العكس الجميعُ هُزِمَ ودمّرَ وسُلِبَت حقوقه، فالخسارة الكبرى لَحقت بالأطفالِ وتضاعف عددُ الذين ظهرت عليهم أعراض الضّيق النّفسيّ والاجتماعيّ بعد أن اضطرت العديد من العائلات للفرارِ من العنف عدّة مرات بحثاً عن الأمان. وقد مرّ عليهم شتاء طويل آخر واجهوا فيه ضراوة الطّقس السّيّئ وعانوا من الأمطار الغزيرة والثّلوج وهم يعيشون في خيام ومآوٍ ومبانٍ مدمّرة أو غير مكتملة البناء، إضافة إلى الفقرِ والجوعِ والحرمانِ من التّعليم، وأدنى مقوماتِ الحياة الأساسيّة، ما دفعَ الكثير منهم إلى العمل بأصعبِ الظّروف بغية مساعدةِ العائلة، فاللاجِئ السّوريّ يعاني من عقباتٍ عديدة أعظمها الفقر، ونتيجةً لذلك، أصبحت عمالة الأطفال السّوريين شائعة في لبنان، مع أنّها غير مشروعة. فقد اضطرّ الأطفال إلى التخلّي عن التّعليم والانضمام إلى القوى العاملة لإعالة أسرهم، فضلاً عن أنّ حوالي ثلث الأطفال السّوريين اللاجئين المنخرطين في سوق العمل هم دون سنّ الرّابعة عشرة، وبعضهم لا تزيد أعمارهم عن ستة أعوام. ويعمل غالبيتهم في الاقتصاد غير الرّسمي، إذ يزاولون عملهم في القطاع الزراعي أو قطاع البناء أو قطاع الصناعة أو تعليب اللحوم أو غيرها من المهن. ويتحمّل الكثير منهم فترات عمل تتراوح بين 12 أو 14 ساعة في مقابل 4 دولارات أمريكية.

لقد وقعّت الحكومة السّورية عام 1993 على اتفاقية حقوق الطفل الدولية، التي تعتبرُ شاملةً ومحدّدة لكل الإجراءات والوسائل والضمانات لتحقيقها، وهي بمثابة دستور، على الدّول الموقعة تغيير قوانينها المتعلقة بالأطفال للتّوافق مع اتفاقية حقوق الطّفل. ونجد في مختلف فروع القانون السوري، قوانين تتعارض مع هذه الاتفاقية، إضافة الي ما يجري من انتهاك القانون وعدم تطبيقه لدرجة تفريغ اتفاقية حقوق الطّفل من محتواها. ومن الصعب الحصول على إحصائية دقيقة أو مقنعة لعمالة الأطفال السّوريين سواء في الدّاخل السوري أو في دول اللجوء، وقد وردت في تقارير رسمية أنّ نسبة عمالة الأطفال بلغت نسبة 20% من قوة العمل المحلية، بزيادة الضعف عمّا كانت عليه قبل الحرب 10%، إلا أنّ واقع الحال المأساوي يقول إنّ النّسبة أعلى بكثير نظراً للأسباب التي ولّدتها الحرب وتداعياتها على العائلة السورية والوضع المعيشي الصّعب، سواء في الداخل أو في دول اللجوء المجاورة. أشار تقرير اليونيسيف في آب 2019 إلى أنّ أربعة من خمسة أشخاص يعيشون تحت خط الفقر في الداخل السوري ما يدفع الأطفال للعمل من أجل البقاء على قيد الحياة، ومساعدة عائلاتهم، وذلك في ظلّ غياب الرّقابة من المجتمع المدني، والمؤسسات الدّولية المعنيّة بحماية الأطفال، وفي غياب الدولة ومؤسّساتها التي عليها أن ترعى وتحمي الأطفال. فكم سيكون الثمن صعباً مع عدم محاربة هذه الظّاهرة الخطيرة على مستقبل أطفالِنا السّوريين!

العدد 1107 - 22/5/2024