انتصار في زمن الهزيمة

أحمد ديركي:

ليس بالأمر المستغرب أن تُعمّم الأنظمة السياسية المسيطرة فكرة أن زمن الثورات والانتصارات قد انتهى. وتعمل على محاولة تجيير أي عمل تقوم به هذه الأنظمة على أنه يمثل (انتصار) أو (إنجاز). ويا له من (انتصار) أو (إنجاز) فريد من نوعه! فكل عمل من حق الشعب تقوم به الأنظمة السياسية تعتبره وكأنها أتمّت واحداً من (الانتصارات) أو (الإنجازات). وتكثر الأمثلة حول هذه الـ (انتصارات) أو (الإنجازات)، ومنها على سبيل المثال افتتاح طريق، أو إنشاء مدرسة رسمية، أو مد شبكة مياه صغيرة لقرية نائية أو… فتحتشد وسائل الإعلام خلف هذا (الممثل الرسمي) للنظام السياسي وتقام الاحتفالات والخطابات الرنانة وتزخر الصحف والتلفزيونات بصوره وهو يقص شريط الافتتاح.

فيظن الشعب أن هذا (الانتصار) أو (الإنجاز) العظيم قام به النظام السياسي (خدمة) للشعب، وكأنه ليس من حق الشعب أن يكون لديه مدرسة رسمية، أو طريق معبدة، أو شبكة مياه أو… ويبدأ العمل على تبجيل النظام السياسي و(انتصاراته) و(خدماته) الجليلة للشعب.

مقابل كل هذه (الخدمات) الجليلة على المستوى الداخلي، هناك المسائل المتعلقة بالأمور الخارجية، ومن أبرزها مسألة العلاقة مع الكيان الصهيوني، وطبعاً لما لهذه القضية من انعكاسات على المستوى الداخلي.

بداية على المستوى الداخلي سئمت الشعوب من (انتصارات) و(خدمات) النظام السياسي، لأن هذه الخدمات حق من حقوق الشعب، وتعممت فكرة نهاية عصر ثورات الشعوب. فالاستقلال قد أُنجز! والنظام القائم مستقل عن أية تبعية خارجية! والشعب تقدم له الخدمات! وما أكثر أجهزة السلطة السياسية للقيام بمهمة هذا التلاعب الإيديولوجي لتعميم الفكرة.

وعلى المستوى الخارجي، وتحديداً فيما يتعلق بالعلاقة مع الكيان الصهيوني، بدأ تعميم فكرة أن (التطبيع) مع العدو الصهيوني ليس بالخيانة للقضية الفلسطينية، وليس بالخيانة للقضية العربية، وليس بالخيانة للقضية الإنسانية، بل خدمة للقضية الفلسطينية! فذهبت بعض الأنظمة السياسية العربية إلى (التطبيع) مع الكيان الصهيوني المحتل لأرض فلسطين. في البدء اعترضت بعض الأنظمة العربية على هذا الفعل الخياني، ومن ثم أصبح الفعل الخياني أمراً طبيعياً لا خيانة فيه! فكرّت سبحة (التطبيع) واختفت الأصوات الرسمية العربية المعارضة للفعل الخياني، وها هي اليوم (المملكة العربية السعودية) تفتح أجوائها للطيران الصهيوني، استكمالاً لفعل الخيانة، وتركيا تعلن عن العلاقات الطبيعية مع الكيان، ومن قبلها الإمارات العربية المتحدة… وها هي ذي الدول (المطبعة) مع الكيان الصهيوني تملك علاقات (طبيعية) مع الدول التي لم تتطبع حتى تاريخه والسجاد الأحمر مفروش بينهم.

من المستوى الداخلي إلى الخارجي أفعال أحبطت عزيمة الشعوب وتعممت فكرة الهزيمة. ويمثل اجتياح الكيان الصهيوني لبيروت عام 1982 وارتكابه أبشع جرائم الإبادة الجماعية بالقرن العشرين، مجزرة صبرا وشاتيلا، والعالم يشاهد ويصفق أو يستنكر ببيان، بداية مسار تشكل إيديولوجية الهزيمة والخيانة التي عملت عليها الأنظمة العربية.

في الجهة المقابلة كان الفعل المقاوم، قولاً وفعلاً، للحزب الشيوعي اللبناني لإيديولوجية الهزيمة والخيانة. فكانت العبارة الشهيرة لمهدي عامل، الذي اغتالته القوى الظلامية: (لست مهزوماً ما دمت تقاوم)، فكانت جمول الترجمة العملانية لعبارة (لست مهزوماً ما دمت تقاوم)، وطبق الرفيق عبد الكريم عبود المعروف بـ(مازن عبود) القول بالفعل مطلقاً الرصاصات الأولى لجبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ضد الاحتلال الصهيوني في عملية بسترس في 16 أيلول عام 1982، مع رفاق آخرين له في الفكر الانتصاري والفعل التحريري، فبالنسبة له، وللرفاق لا فصل بين التحرير والتغيير.

 

نبذة عن مازن عبود:

انتسب الرفيق مازن إلى صفوف الحزب الشيوعي اللبناني عام 1974 من خلال منظمة الحزب في عين المريسة في بيروت. في بداية الحرب الأهلية اللبنانية في لبنان شارك في التصدي للقوى الفاشية والطائفية السلطوية، وغير السلطوية دفاعاً عن شعب لبنان ووحدته وعن تطوره الديمقراطي ودفاعاً عن الثورة الفلسطينية. خضع لعدة دورات عسكرية وأمنية وسياسية داخل لبنان وفي الخارج، ومنها دورة أركان في الاتحاد السوفياتي.

اضطلع بمهمات قيادية عدة في منطقية بيروت وفي القوات المركزية ومنها قيادة قوات الطوارئ المركزية في الحزب. كلّف بمهمات كثيرة في بيروت وحماية الرفاق ومراكز الحزب وخاصة المركز الرئيسي في بيروت من شتى الاعتداءات وهجمات القوى الطائفية، وأحزاب السلطة السياسية الطائفية. كما تولى الرفيق مازن، إلى جانب رفاق آخرين، تدريب الرفيقات والرفاق وتحضيرهم لتنفيذ أهم عمليات المقاومة الأمنيّة ضد أخطر قادة عملاء الكيان الصهيوني.

خلال الاجتياح الصهيوني للبنان عام 1982 وعند وصول قوات الاحتلال إلى بيروت، تصدى ببسالة للعدوان على رأس قوه حزبية مقاتلة، فأنزلوا خسائر فادحة في صفوف العدو وتمكنوا من إعاقة تقدمه خاصةً على محور المتحف والجامعة العربية.

عُرف عن مازن أنه كان أحد الذين نفذوا أول عملية للمقاومة الوطنية اللبنانية في بيروت وهي عملية بسترس ضد جيش الاحتلال تلبية لنداء جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (جمول) في أيلول من العام 1982، وكان شريكاً في معظم العمليات التي نفذت بعدها في عملية محطة أيوب وعملية منظمة التحرير وسلسلة عمليات الجبهة ضد الاحتلال الصهيوني، وسدد مع رفاقه على امتداد الأراضي اللبنانية الضربات التي أجبرت جيش الكيان الصهيوني على الانسحاب من بيروت والجبل والإقليم وصيدا والبقاع الغربي والجنوب وصولاً إلى الشريط الحدودي، من دون أي قيد أو شرط.

كان لمازن عبود دور هام في التخطيط والتنفيذ لعدد من عمليات المقاومة في ضواحي بيروت وفي الجبل، التي لم يعلن عنها، منها عمليات أمنية وعسكرية في الحدث وفرن الشباك وشانيه وداريا….، والتي تكبّد فيها العدو عدداً من القتلى في صفوف ضباطه وعناصره. ومازن عبود المنفّذ الفعلي للعملية الأولى ضد العدو الصهيوني في مدينة صيدا عندما اصطاد عنصرين صهيونييّن في جيب عسكري في وسط مدينة صيدا في وضح النهار، حيث كانت باكورة العمليات النوعية في المدينة التي أدت إلى تحريرها لاحقاً.

قاوم مازن عبود لا الكيان الصهيوني فقط، بل قاوم أيضاً الداعم الأساسي لهذا الكيان أيضاً. فقاوم مازن عبود قوات المارينز وتصدى للقواعد العسكرية الأميركية التي كانت موجودة في لبنان في تلك الفترة، وبعد أن تمكّن العدو من كشف هويته، قاموا بمحاولة اغتيال فاشلة، ثمّ قاموا عبر عملائهم في الداخل بتفجير منزله في عين المريسة.

شارك الرفيق مازن في المؤتمر الوطني الثاني عشر للحزب بصفة مندوب مراقب، وانتخب خلاله وبالإجماع عضواً فخرياً في لجنته المركزية.

رحل جسد المقاوم مازن عبود، بعد أن هزمه المرض، ولم يهزمه لا الكيان الصهيوني ولا الولايات المتحدة الأميركية، ولا النظام السياسي في لبنان وبقية الأنظمة السياسية معممة الفكر الانهزامي الخياني. فمازن عبود، وأمثاله، يجسدون فكرة الانتصار التي تعلمها من حزبه، الحزب الشيوعي اللبناني، في زمن الهزيمة. فالانتصار حق من حقوق الشعوب لا (خدمة) من الأنظمة السياسية الخائنة.

رحل عبود من دون أن تقيم له الأنظمة السياسية العربية عرس الرحيل، كما تفعل في (أعراسها) (الانتصارية) أو (الخدماتية). أمر بديهي فكيف لأنظمة خائنة كهذه تعمل على تعميم الفكر الانهزامي أن تحتفل بمقاوم عمل على هزيمة الفكر الانهزامي الخائن؟ مع رحيل كل مقاوم قاوم كما قاوم مازن عبود تبتهج الأنظمة السياسية الخائنة لأن رحيلهم يسرّع تعميم الفكر الانهزامي الخائن!

يا رفيقي، رحيلك أدمع عيني، ولكن كعادتك في كل لقاء معك تطرح عليّ أسئلة تصعب الإجابة عنها: هل أدمعت عيني على رحيلك؟ أم أدمعتها لعجزي على أن أكون مثلك منتصراً في زمن الهزيمة؟ أم أدمعت عيني لرحيلك وعجزي على أن أكون مثلك منتصراً في زمن الهزيمة؟

العدد 1104 - 24/4/2024