بين الأهل والأبناء.. رحلة اختلافٍ معرفيّ

إيناس ونوس:

يكبر الإنسان ويحمل مجموعةً من القيم والمبادئ والأفكار التي تتناسب ونمطية تفكيره وتتماشى مع البيئة التي تربَّى فيها، وهي من وجهة نظره صحيحةً بالمطلق، ما يدفعه لأن يقوم بنقلها إلى كلِّ المحيطين به ونشرها بينهم، إذ يرى أنَّ من واجبه خدمة هذه الأفكار والقيم ونقلها إلى أكبر عددٍ ممكنٍ من الأشخاص الآخرين، لا سيما الذين يختلفون معه بالرُّؤى والمعتقدات سواء كانت دينية أم عقائدية أم غير ذلك.

وهذا ما يجعلنا نعايش ونرى هذه الصُّورة في غالبية بيوتنا وعوائلنا، فمن نشأ على تربيةٍ وفكرٍ يحملان الصِّبغة الدِّينية مثلاً، يقوم هو أيضاً بنقلها إلى أبنائه عبر تربيته لهم والتَّأكيد على مفاهيمها وتعزيزها، كذلك الأمر ينطبق على من ترعرع في أسرةٍ تتبنَّى فكراً سياسياً معيّناً ذا أهدافٍ ووجهة نظرٍ خاصَّةً به، الأمر الذي يفرض الاستنساخ والتِّكرار ما بين أفراد العائلة الواحدة، لتنسجم فقط مع من يتوافق معها نابذةً من يقف على الطَّرف الآخر، وهو ما يعيق محاولة أيِّ فردٍ من الأفراد الخروج من هذا الإطار المرسوم والمُعدِّ له سلفاً من قبل أن يولد حتَّى، ويجعله يقع في دوَّامة الحيرة والارتباك بين ما يريد أن يتبنَّاه من رؤىً وأفكارٍ تختلف ربَّما بالكلِّ عمَّا هو سائدٌ في محيطه، وبين ما عاشه ونشأ عليه.

لا يدرك الأهل في غالب الأحيان أنَّ أولادهم ليسوا لهم، فهم أبناء الحياة التي من البديهي أنَّها ستأخذهم في مناحيها المتنوعة، حتى يُمسوا قادرين على اتَّخاذ القرار وتبنِّي موقفهم ومكانهم الذي يرون به أنفسهم، وهنا تقع الطَّامة الكبرى، لا سيما أنَّ الأهل يعتقدون أنَّهم دوماً على صواب، وأن أيَّ رأيٍ مغايرٍ لهم مرفوضٌ البتَّة دون محاولة القبول بالنِّقاش أحياناً كثيرة، ممّا يفجِّر الخلافات والمشادَّات بين الأهل والأبناء الذين يرغبون بتجربة اتجاهاتٍ أخرى بعد أن جرَّبوا قسراً ما تشرَّبه الأهل.

كثيرةٌ هي الحالات التي نعايشها يومياً في محيطنا الضَّيق والتي تشكو من هذه النُّقطة تحديداً، وأعتقد جازمةً أنَّ المشكلة تكمن لدى الأهل في عدم قبولهم لأيِّ تغييرٍ من الممكن أن يطرأ على الأبناء، لأنَّه _ من وجهة نظرهم وبكلِّ بساطةٍ_ من الممكن أن يزعزع بعض الأفكار التي يريدون تطبيقها والعيش إلى ما لا نهاية في إطارها، متغافلين عن أهمية أنَّ هذا التَّغيير الذي يرغب الابن العيش فيه قد تكون جدواه أكثر فاعليةً في حياته مستقبلاً، وخصوصاً إن تمَّ احتواؤه ومناقشته وتسليط الضَّوء على الإيجابيات والسَّلبيات، أو على وجهات النَّظر المتباينة ومن ثمَّ التَّفكير بها، فقبولها أو رفضها.

من حقِّ كلِّ إنسانٍ أن يحيا ويتبنَّى أفكاراً ومعتقداتٍ ورؤىً خاصَّةً به، بعد أن يكون قد حاول وجرَّب العديد من اتجاهات الحياة، فيختار ما يتناسب وطبيعته الخاصَّة وشخصيته وبنيته المعرفية، وليس من حقِّ أيٍّ كان ومهما كانت صفته أو قرابته فرض ما يراه هو مناسباً انطلاقاً من باب الإجبار والإكراه وفرض السُّلطة أبويةً كانت أو دينيةً أو عقائدية، لا سيما في أيامنا هذه فقد بات العالم كلُّه موضوعاً بقبضة أبنائنا منذ نعومة أظفارهم عبر وسائل التِّكنولوجيا المتعدِّدة والتي باتت في متناول الجميع، فإن تحلَّى الأهل ببعض المرونة في قبول الاختلاف بهدف استمرارية العلاقة بينهم وبين أبنائهم، وإن امتلكوا من الوعي ما يجعلهم قادرين على توعية أبنائهم على أن يتَّخذوا لأنفسهم رؤىً وأفكاراً تخصُّهم وحدهم وتناسبهم، وتقبَّلوا فكرة أنَّ لأبنائهم حقَّاً كما لهم، ستظهر نتائج هذا الاختلاف الفكريِّ في صورةٍ أبهى وأكثر ديناميكيةٍ وفعاليةٍ في العلاقة بين الأطراف جميعاً، أمَّا أن يبقى الأهل متقوقعين متمحورين حول فكرهم وحده، سنبقى نشهد النَّتائج الكارثية التي نحياها اليوم، وستبتلعنا الدَّوامة جميعاً دون استثناء.

العدد 1104 - 24/4/2024