البيئة ودورها في تكوين شخصية الفرد

نور سليمان:

تدلّ التّنشئة الاجتماعيّة في معناها العام على العمليات التي يصبح بها الفرد واعياً، ومستجيباً للمؤثّرات الاجتماعيّة، وما تشتمل عليهِ من ضغوط وواجبات على الفرد حتى يتعلّم كيفيّة العيش مع الآخرين. وهي في معناها الخاصّ نتاجُ العمليّات التي يتحوّل بها الفرد من مجرد كائن عضوي إلى شخص اجتماعي، وتصل تلك التنشئة إلى أقصاها في مرحلة الطّفولة، وقد شبّه علماء النّفس الطفل بكتلة لينة يمكن للوالدين أو المربّين تشكيلها على النحو الذي يختارونه، وإن كان ينبغي على كل مجتمع أن يصل إلى ثلاثة حلول لقضايا هامّة تواجهه بخصوص الأطفال هي طرق رعايتهم، وترسيخ القواعد التي تتحكّم في كيفيّة تفاعلهم مع الآخرين، ونقل المهارات والقيم من الكبار إليهم. وإزاء المطالب الأخيرة واجهَت المجتمعات مصاعب متباينة، معتمدة في ذلك على عملية التّعليم والتعلّم القائمة على التّفاعل الاجتماعيّ، بهدف إكسابِ الأطفالِ معايير واتجاهات مناسبة لأدوار اجتماعيّة معيّنة مستقبلاً، تمكّنهم من الاندماج والتّوافق الاجتماعيّ والأمر هنا ينطوي على ما يعرف بـ(عملية التنشئة الاجتماعيّة) أو ما يُسمّى أحياناً بعملية التّطبيع الاجتماعي، وتعني(التذويب) أي إدخال معايير المجتمع وقيَمه وتبنّيها من قبل الفرد لتصبح جزءاً من مكونات الذّات الأساسيّة، وتصبح ضوابط للسّلوك لا يجوز انتهاكها. وأي مخالفة لها ستؤدي إلى الشّعور بالذّنب، فهي تلعب دوراً هاماً في تطوّر سلوك الفرد ومبادئه الأخلاقيّة. والتّنشئة الاجتماعيّة ليست فقط عمليّة تعلّمٍ اجتماعيّ، بل هي أيضاً عملية نموّ يتحوّل من خلالها الأفراد من أطفال اعتماديّين متمركزين حولَ ذواتهم إلى كبارٍ ناضجين، يدركون معنى المسؤولية. وللتّنشئة الاجتماعيّة خاصيّة الاستمرارية، فهي لا تقتصر على مرحلة الطّفولة فقط بل تستمرّ مع الفردِ طيلةَ مراحلِ حياتهِ (من المراهقة حتّى الشيخوخة) لأنّ الفرد في كل من هذه المراحل ينتمي إلى جماعات من نوع جديد، يبدو فيها بدور جديد، ويُعدّل من سلوكياته وأفكارهِ، ويكتسب أنماطاً مُستحدثةً من السّلوك، وهذا ما يدفعنا لتقديمِ معنى التّنشئة الاجتماعيّة على أنّها عمليّة تعتمدُ على التّلقين والمحاكاة والتّوحّد مع الأنماطِ العقليّة والعاطفيّة والأخلاقيّة لدى الطّفل والرّاشد، هادِفة إلى إدماجِ عناصرِ الثّقافة في نسق الشّخصية، وهي تبدأُ من الميلادِ داخل الأسرة، وتستمرّ باتساع اتساق التّفاعل كلما كبر المرء، وتعبّر عن نشاط البناء الاجتماعي بمختلف ميادينه (الأسرة، الدّين، السّياسة، التّعليم، العمل، الاقتصاد) الذي يضغط على الفرد لكي يتوافق مع غيره. وهذا ما يضفي على عملية التّنشئة مفهوم الدّيناميكيّة، لأنّ الفرد في تفاعله مع غيره من أفراد الجماعة يأخذ ويعطي في ضوء المعايير الاجتماعيّة.

وهنا نسألُ هل الإنسان ابن بيئتهِ؟ أكّدت الدّراسات الاجتماعيّة والنفسيّة والتّربويّة، وعلوم الإنسان (الإنثربولوجي)، والأبحاث الاجتماعيّة البيئيّة أنّ الإنسان ابن بيئتهِ، فابن البادية بدويّ، وابن الحضر حضريّ، وابن الريف ريفيّ، ولكن هل ابن الأبوين الملحدين سيكون كذلك؟ أو ابن المؤمنين مؤمناً؟ فالشيخ والقسّ في النّهاية كلاهما نتاج بيئةٍ دفعتهما لتعلّم التّعاليم الدّينيّة، وهناك عالم الفيزياء والفنان التّشكيلي، والطّبيب، والمعلّم جميعهم لعبت البيئة الاجتماعيّة دوراً في اختياراتهِم، فقد دفعتهم إلى هذا الطّريق بتشجيع الأهل أو الإجبار في بعض الحالات.

للانتماء معانٍ اجتماعيّة ونفسيّة وسياسيّة، من المعاني الأولى هو الميل الطّبيعي للبشر نحو الالتقاء والنشاط المشترك خاصة إزاء حاجاتهم المشتركة، فمثلاً قد ينتمي الفرد إلى حزب سياسي، أو ديني، فلم يكن التّمييز بين هذه المسميات والسّمات معقّداً ومثقلاً بدلالات اجتماعيّة واسعة، بل اكتسب منحىً أليماً يصعب إنكاره، فقد ترسّخ مفهوم الانتماء للمعتقد، حتى باتت المصالح والانجرار الأعمى هو المسيطر الأبرز على الحاضر والمستقبل، لكن النّصف الثاني من القرن الماضي كان حافلاً بمحاولات الدّول العربية حديثة الاستقلال بالعمل على تقديم الوطن والدولة على تقديسِ الأفراد والمعتقد بغية مواكبة ركب الدّول المدنية التي تتخذ من الوطن عنواناً والعقيدة هامشاً.

وبالتّوازي مع ذلك نرى أنّ للتّربيةِ والأهل دوراً مهمّاً في التّأثير على الطّفل ورغباتهِ واحتياجاتهِ، فالبعض لا يقبل أن يكونَ ابنهُ أو ابنته إلاّ طبيباً، وبعضهم يحاولُ إدخالَه بالحزبِ أو المنظمةِ التي ينتمي لها كونهُ يرى نفسه أحقّ من يتّخذ مثل هذه القرارات، ما يؤثّر سلباً على حياةِ الطّفل ومستقبلهِ كونهُ أُجبرَ بطريقةٍ وأخرى على اختيارِ أمرٍ ليسَ لهُ أيّ رأي أو قرارٍ فيه، فالثّقافةُ التي تقولُ إنّ “الآباء دائماً على حقّ، ويجب أن نطيعَهم أوتوماتيكياً، هي ثقافة رثّة بالية يتبعُ بها الأهل مبدأ الأنانيّة المُغلّفة بالخوف على الطّفل دون أن يعلّموه كيفيّة اتخاذ قراراتهِ بنفسهِ، ومشاركتهِ لهم خياراتهِ، والنّقاش حولها، لنجدَ أنفسنا بعد هذا كلّه في طريقٍ ليسَ منه رجعةً، ولا لإصلاحهِ فائدةً، فالطّفل الذي يتربّى على عاداتٍ مقولَبةٍ وأفكارٍ مصفوفةٍ لن يجدَ نفسَه سوى نسخة عن أقرانهِ، فيضيعُ بذلك تميّزه وتفرّده، وكما يقول رائدُ علم الاجتماع ابن خلدون، فسلوكُ الإنسان وطباعه وثقافته ما هي إلّا امتداد لعناصر بيئته وطريقته في التّواصل والتعاطي معها، فهي من تصقله وتلوّنه حسب جغرافيّتها ومناخها. فرغم أنّنا نعيشُ في عصرٍ لا تقتصر فيه علاقتنا مع البيئة على التّكيّف والانسجام فقط، بل أصبحنا نستطيع تغييرها للأفضل وبالتّالي نرفع مستوى جودة حياتنا، إلاّ أن الاهتمام بوعي التّغيير في مجتمعاتنا أقلّ من المأمول بكثير، لأنّ المجتمعات التّقليديّة تخافُ التّغيير، والاندماج، رغمَ أنّ مسؤوليتنا تجاه أنفسنا ومستقبلنا، وتجاه الأجيال القادمة تُحتّم علينا أخذ مسألة تنمية الوعي بجدية. فليسَ منافياً للغريزةِ البشريّة أن ينموَ الإنسان مُتعلّقاً بمفهوم عقائديّ أو فكريّ أو جغرافيّ معيّن ليلقي فيه مرساة كينونته وليصبح المفهوم، سواء كان ديناً أو وطناً، هو بوصلةُ حياته حتى بلوغه سنّ الرّشد على الأقلّ، وهذا ما أشار إليه عالم النّفس الأمريكي ديفيد ماكليلاند الذي كتب باستفاضة عن نظرية الحاجة وما يحدو بنا للتّعلّق بمحيطنا الثّقافي أو الدّيني أو السّياسي الذي نترعرع فيه، وهذا ما نراهُ بوضوحٍ وخاصّة في دوامة العنف المريعة التي تفتك بالمنطقة العربية والتي يتسع نطاقها باتساع التّحالفات وتفاوت المصالح، والتي زادت من نسبة المدينين بالولاء للمعتقد قبل الوطن، مهما عَنى الوطن لهم، ومفهوما الطّائفة والمواطنة يبدوان وكأنهما يزدادان تباعداً عن بعضهما البعض في بلدان: كالعراق وسورية ولبنان ومصر ودول عربية أخرى، إلّا أننا ولكي نحافظ على التّوازن في تناول المشكلة لا بدّ من أن نتحدّث عن إجبارٍ واضطرارٍ من نوع آخر يقف وراء الانتماء للتّجمعات الإنسانيّة، ومنها خاصة: التّنظيمات السّياسية.. ونقصدُ هنا بالمعاني والعوامل النفسيّة الكامنة وراء الرّغبة والقرار والإجبار في الانتماء والالتحاق بالمجموع البشري في محيطه، فكثيرٌ من مدارس علم النفس تــرى في قرار الانتماء عموماً هروباً واعياً أمام قلقٍ مؤلم يسبّبهُ الخوف من الوحدة والرّغبة في الحصول على الأمان في أحضان الجماعة والتطلّع الطبيعي لدى الإنسان في التّخلّص من مواجهة مصير مجهول والخشية من تحمّل مسؤولية القرار، ممّا يدفعهُ في النّهاية للتّخلّي عن حريتهِ الشّخصية والانصياع لقراراتِ العائلة.

وما علينا فهمه ونشره هو (ثقافة الحوار)، و تقبّل الرأي والاختلاف، فأطفالنا ليسوا ملكاً لنا، فالفاصلةُ بينَ التّقبّل والإجبار تتسعُ لتكوّن شرخاً حياتيّاً لا يمكن إصلاحهُ، هذه المعاناة النّفسيّة التي تكمن وراء قرار الانتماء للجماعة لها عناصرها النّوعيّة العديدة، فسلامة الوعي وراءهُ قلقٌ وخشيةٌ من ضياعٍ وخوفٍ من وحدة ورغبة في الأمان والعودة إلى الرّحم الذي خرجَ منهُ ليقابلَ هذا العالم، لذلك نحن نميل وبتفاؤل دائم وملازم إلى أنّ الطفلَ الإنسان يتحرّر من آثار الانكسار الأول والكبير الذي يصيب نفسيته لحظة الولادة، وخاصّة في أثناء حياته وتطوّره العقلي وعلاقاته الاجتماعية المتنوعة وآلاف الحالات التي يضطّر فيها إلى اتخاذِ قراراتهِ فيها بنفسه، لذلك ندعم وبرغم كل ما تقدم من إيجابيّات وسلبيّات الانتماء الطّوعي الواعي والمسؤول للإنسان، لأنه الأكثر إنسانيّة وديمقراطية.

العدد 1107 - 22/5/2024