وجهٌ آخر للإتجار بالبشر

إيناس ونوس:

يجري تداول موضوع الاتجار بالبشر بكثافةٍ في الآونة الأخيرة بسبب ما يحدث على مستوى العالم برمَّته، وتبثُّه على الدَّوام شاشات التَّلفزة وجميع وسائل التَّواصل بمختلف أشكالها وأنواعها، وقد وُصف بأنَّه أشنع فعلٍ إجراميٍّ بحقِّ الإنسانية والإنسان، وعلى ذلك حُدِّد يوم الثَّلاثين من تموز من كلِّ عامٍ يوماً عالمياً لمناهضة الاتجار بالبشر للتَّذكير الدَّائم والمستمر لما لهذا الفعل من تبعاتٍ وآثار سيئةٍ لاأخلاقيةٍ تنعكس بالضَّرورة على الجميع.

وللاتجار بالبشر أنواعٌ وأشكالٌ جرى تسليط الضَّوء عليها، وبات الصَّغير يعرفها والكبير، لكنَّ شكلاً واحداً لم يُتَطرّق إليه ولا وصف على أنَّه ينضوي تحت هذه التَّسمية، وهو ما يعيشه بعض البشر في أنحاء متفرِّقةٍ من العالم حينما يعيشون تحت كنف حكوماتٍ لا همَّ لها سوى زيادة مكتسباتها الخاصَّة، ومصالحها الضَّيقة.

فحين يعيش الإنسان واقعاً معيشياً سيّئاً يسعى فيه للعمل على مدار الأربع والعشرين ساعةً من أجل الحصول على لقمة العيش..

وحين يتحمّل المريض آلام مرضه لأنَّه غير قادرٍ على الذَّهاب إلى المشفى أو الطَّبيب..

وحين يمتنع الأطفال عن الذَّهاب للمدارس لأنهم مضطرّون للعمل لمساعدة ذويهم على العيش، فيكبرون وقد فقدوا كلَّ معالم الطُّفولة في وقتٍ مبكِّرٍ من حياتهم، هازئين من كلِّ الاتِّفاقيات والمواثيق الدَّولية التي تجرِّم أيَّ فعلٍ من شأنه المساس بطفولتهم المهدورة..

وحين نتعثَّر بأسرٍ كاملةٍ تفترش الشَّوارع والأرصفة في كلِّ الفصول لأنَّها غير قادرةٍ على تأمين مسكنٍ بسيطٍ لها..

وحين يفضِّل جيل الشَّباب الهجرة عن بلادهم وأهلهم وذكرياتهم وحياتهم كاملةً، ويسعون في طرقاتها الشرعية وغير الشرعية، بكلِّ ما أوتوا من إرادةٍ مهما كان الثَّمن غالياً..

وحين يضيع حقُّ الضَّحية بين ردهات المحاكم ويغدو الجلَّاد أو المذنب صاحب الحقِّ الأوَّل..

وحين تنتشر الدَّعارة والجريمة والإدمان بين النَّاس كأنَّها هي الشَّكل الطَّبيعي للحياة بحجج التَّطوُّر والرُّقي ومواكبة الحضارة..

وحين يعيش الإنسان المخاوف والهواجس الواحد تلو الآخر من البرد والحرِّ والجوع والفاقة، لأنَّه مستبعدٌ عن أبسط حقوقه كالخبز والماء والكهرباء والتَّعليم والعلاج والتَّرفيه، وفي الوقت ذاته هو مطالبٌ بتقديم واجباته كافَّةً على أكمل وجه..

حين يخرج المسؤولون على الملأ بأكاذيب وأكاذيب يختلقونها، وهم يعرفون أنَّهم كاذبون وأنَّ المستمعين إليهم سيضحكون عليهم ومنهم في كلِّ مرَّةٍ يختلقون بها أكاذيبهم غير آبهين بأحد..

حين يسيطر اليأس والقنوط على حياة الأجيال الشَّابَّة التي يُفترض أنَّ لا الأرض ولا السَّماء تتَّسع لأحلامهم..

وحين تعترف الحكومات بكلِّ ما سبق ذكره بل وأكثر من ذلك، وبأنَّه يحصل حقيقةً وليس محض خيالٍ علميٍّ ولا حدثاً عابراً في مسلسلٍ أو روايةٍ أو فيلم، وتصمُّ الآذان عن كلِّ الصَّرخات والآهات غير مباليةٍ ولا مكترثة، بل ومصمِّمةً على المضيِّ قدماً في سياساتها سعياً وراء تحقيق غايتها الأكبر (وأد الحياة والحلم والمستقبل)..

حينئذٍ فقط، يمكن لكلِّ العالم أن يعترف بأن الاتجار بالبشر لا يقتصر فقط على مقايضة الإنسان على أعضاء جسده أو سرقتها من أجل المال..

عندئذٍ.. يدرك العالم برمَّته أنَّ حكوماتٍ مجرمةٍ تقوم بالاتجار بمن كان من المفروض عليها صونهم وحمايتهم ورعايتهم..

عندئذٍ، يجب على من يصكُّ المواثيق الدَّولية أن يغيِّر معاهداته، وأن يندى جبينه ممَّا يحصل بحقِّ الإنسانية جمعاء، وأن يتجرَّأ على الوقوف بوجه الجشع والطَّمع والسَّلب والنَّهب والسَّرقة والاحتكار، ويقول: (لا) بكلِّ ما في الصَّوت من قوَّةٍ وجسارة، مسانداً أصحاب الحقوق للوصول إلى الحياة التي تليق بالإنسان فعلاً.

فهل نصل إلى ذاك اليوم حقَّاً؟ هل يوجد أحدٌ اليوم لا يزال يمتلك القدرة على الحلم والأمل بأن ينتهي مسلسل الاتجار اليومي بأحلامنا وحياتنا وأبسط حقوقنا؟

العدد 1104 - 24/4/2024