من موت إلى موت!

نور سليمان:

يُعتبر الاتجار بالبشر كما هو محدّد في المادة (3) الفقرة (أ) من بروتوكول منع وقمع ومعاقبة الاتجار بالأشخاص، جريمةٌ تحدثُ في كلّ منطقةٍ من العالم، وخاصّة الذين يتحركون بصورةٍ غير نظاميّة أو من هم في حالات لجوء مطوّلة؛ فهم يتعرّضون بشكل خاصّ لعمليّات الاتجار وبطريقة لا يستطيعون بها طلب المساعدة من سلطات الدّولة، فالاستغلال يستهدف الحالات الضّعيفة والعاجزة، وأشكالُ استهدافِ الضّحايا كثيرةٌ؛ يتمّ عن طريق الخداعِ أو الإكراهِ بمجرّد وصولِهم إلى وجهتِهم يتجرّدون من حرّيتهم واختيار طريق تحرّكهم، وقد يكون الأشخاص الذين يتمّ الاتجار بهم عبر الحدود الدّوليّة أو في حالة العبور أو في مكان وجهتهم النهائيّة بحاجة إلى الحماية ضدّ الإعادة القسريّة والوصول إلى الإجراءات التي يمكن من خلالها تحديد وضع اللاجئ الذي يعتبرُ أمراً حاسماً.

فالحربُ اللّعينة التي دمّرت الحجر ونفوس البشر، قادت كثيرين للبحثِ عن ملجأ وطريقِ مغادرةٍ آمن؛ بحثاً عن مأوى لأنفسهم وحياةٍ سليمةٍ، لأبنائهم وأحلامهم التي أصبحت ميتة في بلادنا هذه، وأثناء البحث عن التّغيير والفرص ومع فقدان الأملِ والفشلِ في الحصول على غايتِنا وتضييق الخناق الاقتصاديّ والعمليّ قد تقودنا أقدامنا إلى وجهةٍ خاطئةٍ، فالحلم الذي دُمّرَ يعتبرُ انتكاسَة عظيمةً في حياةِ الشّباب، ففي بلادنا الحكوماتُ تُعتبرُ مصّاصةَ دماءِ الفقراء، وقاتلةَ أحلامهم، من خلالِ القرارات العبثيّة التي تخرجُ دونَ أدنى تفكيرٍ أو حسابٍ بما سيحلّ بهم، فواقعُ السّوريّين اليوم أكبرُ مثالٍ على ما نحاولُ طرحَه وصياغَته كلاميّاً، فالشّباب يحاولونَ البحثَ عن منفذٍ للهروبِ من مستنقعِ الموتِ، وهذا ما يستغلّه المتاجرون، فهم يصطادون ضحاياهُم المصمّمين على النّجاةِ بأرواحهِم، ضعفاء النّفوس أو اليائِسين من مستقبَلِهم وحاضرِهم.

الاتجارُ بالأشخاص جريمةٌ عالميّة واسعةُ الانتشارِ، فالشّبكات والأفراد الذين يستخدمون الأطفال والنّساء والشّباب من أجلِ الرّبح بطرقٍ قذرة وغير مشروعة، عن طريق وكالات العمل والمنح الدّراسيّة الوهميّة الاحتياليّة أو العنف أو فرص العمل المزيّفة، ويقصد بهِ تجنيد أشخاصٍ، أو نقلهم، أو تنقيلهم، أو استقبالهم بواسطة استعمال القوّة أو القسر أو الاحتيال أو أشكال الخداع الأخرى؛ لغرض الاستغلال. والعديد من الممارسات المرتبطة به محظورة بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان IHRL الذي تلتزم به جميعُ دول العالم.

إنّ (الاتجار بالأشخاص) و(الاتجار بالبشر) و(العبوديّة الحديثة) هي مصطلحات شاملة –تُستخدم في كثير من الأحيان بشكل متبادل– للإشارة إلى جريمة يستغلّها بعض الأفراد للتّكسّب على حسابِ البالغين أو الأطفال عن طريق إجبارهم على أداء العمل أو الانخراط في الجنس التّجاريّ. وعندما يُستخدم شخص ما يقلّ عمره عن 18 سنة للقيام بعمل جنسيّ تجاريّ، فهذا يشكّل عملاً إجرامياً بغضّ النّظر عمّا إذا كانت هناك أي قوّة أو احتيال أو إكراه.

يشملُ عنصر (الوسائل): الخطّة القسريّة أي التّهديد باستخدام القوّة، والإكراه النّفسيّ، ومصادرة الوثائق المهمّة كالهويّة وجواز السّفر والثبوتيّات، والأذى، والتّلاعب باستخدام مواد الإدمان، والتّهديد لأشخاص آخرين، أو أشكال أخرى من الإكراه والعنف.

يمكن أن يحدث الاتّجار بالبشر حتّى إذا وافقت الضّحيّة في البداية على ممارسةِ العمل، حيث يمكن للمُتاجِر استهداف الضّحيّة بعد أن تتقدّم بطلب للحصولِ على وظيفةٍ أو للهجرةِ من أجلِ كسب لقمة العيش، فضحايا هذا الشّكل الواسع الانتشار من الاتجار يأتي في المقام الأول من البلدان النّامية، وبلاد الحروب حيث يتمّ استقدامهم ليجدوا أنفسَهم محتجزين في ظروف العبوديّة للقيام بمجموعة متنوّعة من الأشغال غير الإنسانيّة والاستغلالِ الجنسيّ ومحتجزينَ تحت رهابِ الرّعبِ المستمرّ، وأهمّ ما يتعرّض له ضحايا الاتجار من الإناث والذّكور على السّواء للعديدِ من العنفِ والتحرّش والاغتصاب، إضافةً إلى الاستغلال الجنسي التّجاري والعبوديّة والتسوّل والزّواج القسريّ، بهدفِ دفع ثمنِ مرورهِم غير القانونيّ عبر الحدود، وكثيراً ما يتمُّ تزويد الضّحايا بوثائق سفرٍ مزوّرةٍ، تستخدمهَا شبكةٌ منظّمة لنقلِهم إلى بلدِ المقصد.

يؤثّر هذا الشّكل السّائد للاتجار على كلّ منطقةٍ في العالم، إمّا كبلدٍ مصدّر أو بلدِ عبورٍ أو بلد مقصد. إنّ النّساء والأطفال من البلدان النّامية، ومن القطاعات الضّعيفة من المجتمع في البلدان المتقدمة، تغريهم الوعود بالعملِ اللائق ومغادرة منازلِهم والسّفر إلى ما يعتبرونه حياة أفضل، بعيداً عن الحربِ والفقرِ من خلالِ بيعِ عضوٍ من أعضاءِ الجسم. وهذا ما حصلَ مع بعضِ الشّباب العربيّ عامّة والسّوريّ خاصّة، وفي نهاية المطاف يحوّل المُتاجِرون هذه الفرص المزعومة إلى كوابيس للسّيطرة الكاملة سواء من خلال العنف الصّريح أو التّهديدات أو غيرها من وسائل الاستغلال. ومع ذلك، لا تبدأ جميع حالات الاتجار بالبشر بالخداع بناءً على تطلعات الضّحيّة؛ فالعديد منهم يتمّ ببساطة أسرهم واستغلالهم. والقاسم المشترك بين قضايا الاتجار هو أنّ الضّحايا -من الرّجال والنّساء والأطفال- يخضعونَ للإيذاءِ والاستغلال، ممّا يتسبّب في أضرارٍ جسيمةٍ لهم، نفسيّة وجسديّة وقد تؤدّي إلى الموتِ، وكثيراً ما حدَثَت في أثناءِ الهجرةِ غير الشّرعيّة، فالمهرّبون استغلّوا المسافرينَ وحوّلوهم إلى أعضاء للبيعِ فقط، وللتّجارةِ الجنسيّة.

يمكنُ للنّاجينَ أن يلعبوا دوراً مهمّاً في مكافحةِ هذه الجريمة اللاإنسانيّة، حيث يعتبرُ بروتوكول منع وقمع ومعاقبة الاتجار بالأشخاص، لاسيّما النّساء والأطفال، المكمّل لاتفاقيةِ الأممِ المتحدةِ لمكافحةِ الجريمة المنظّمة عبر الوطنيّة، الذي تبنته الجمعيّة العامّة للأمم المتحدة عام 2000، أوّل معاهدة دوليّة لتعريفِ جريمة (الاتجار بالبشر) ويطلبُ من الدّول ضمان حماية ضحايا الاتجار ومساعدتهم في تحقيقِ الأمانِ والتّعافي جسديّاً ونفسيّاً واجتماعيّاً من النّاحية المثاليّة، حيث يصبح الضّحايا ناجين آمنين ومتمكّنين، ولديهم آفاق معقولة لتحقيقِ أحلامهِم وآمالهم، كما يجب استشارة النّاجين عند وضعِ خططِ عملٍ وطنيّة أو مراجعة التّشريعات، حيث يمكنهم نقل التّجارب التي مرّوا بها مع المُتاجِرين وإثبات أنّه من المفيدِ منحَهم الفرص والاختيار لتغييرِ واقعِ غيرهم ومساعدتِهم، إضافةً إلى ضرورةِ تطبيقِ القوانين الدّاخليّة والدّوليّة المتعلّقة بحمايةِ النّفس البشريّة، سواء في أوقات السّلام كما هو الحال في قانون حقوق الإنسان HRL -رغم دوره المكمِّل للأسف للحروب الفجّة المستحدثة والمغطّية للصّراعات- والقانون الدولي الإنسانيّ IHL الذي يجد بيئةً خصبةً له من حيث التّطبيق في أوقاتِ النّزاعات المسلّحة Armed conflict، وجميع اتفاقيات جنيف والبروتوكولات اللاحقة لها، لأن النّزاعات المسلّحة وما تفرزهُ من محطّات استنزاف بشريّ هي اللّاعب الأساسيّ في قضايا الاتجار، والاستثمار.

في كثيرٍ من الأحيان يُتّخذُ منحَى مناصرة ضحايا الاتجار بالبشرِ من هدفٍ سامٍ إنسانيّ إلى مؤتمراتٍ وكلماتٍ تلقَى على المنبرِ دونَ فعلٍ يُذكر وجهودٍ تُبذل، وهذا يحملُ خطراً يختزلُ ما مرّ بهِ الناجونَ من  قصصٍ مريرةٍ وأزماتٍ نفسيّة وجسديّةٍ، إلى فيلمِ إثارةٍ دوليٍّ قصيرٍ وخاصّة في اليومِ العالميّ لمناهضةِ ومكافحةِ الاتجارِ بالبشرِ، وقد حانَ الوقت للأخذِ بعين الاعتبار الحكمة التي تقول (أصواتُ الضّحايا تقودُ الطّريق)، لذا علينا أن نجعلَ صوتَ النّاجينَ من هذه الكارثة خيرَ طريقٍ للحدّ منها ومكافحتهِا بكلّ الطّرق، إضافةً للتّعاونِ بين الدّول والحكومات والذي يهدف لضبطِ الشّبكاتِ والأفراد وخاصة مع قرار الجمعيّة العامّة للأممِ المتحدة رقم68/192 باعتماد تاريخ 30 تموز (يوليو) يوماً عالميّاً لمكافحةِ الاتجار بالبشرِ.

العدد 1107 - 22/5/2024