بين طيَّاتها عبق ذاكرة الحياة

إيناس ونوس:

ليس بالزَّمان البعيد جداً، منذ عشر سنواتٍ أو أكثر بقليل، ما كنت تسير في شارعٍ من شوارع المدينة إلَّا ويستوقفك أحد أكشاك بيع الجرائد والمجلَّات العديدة، إن لم يكن أحد الباعة الجوالين صارخاً بأسماء ما تبقَّى في جعبته من تلك النُّسخ من الصُّحف التي يقوم بعرضها للبيع.

هذه الأكشاك تحديداً تعتبر إحدى زوايا ذاكرة المدينة، فما من ناشطٍ أو مثقَّفٍ أو كاتبٍ أو مناضل أو… إلخ إلَّا وله حكايةٌ بل حكاياتٍ مع تلك الأماكن ومع أصحابها، فإن حصل أن تغيَّب أحد المداومين يومياً يسارع الباقن للسُّؤال عنه وعمَّا حصل له.

شهدت تلك الأركان العديد من التَّفاصيل التي عايشها النَّاس ومرَّت بالبلاد، فهي تجاوزت مهمَّتها كمحطَّةٍ لبيع الصُّحف والمجلَّات، وغدت مخبأً لأفكارٍ ورؤىً لم يكن لها أن ترى النُّور حينذاك.. بتعبيرٍ آخر.. كانت ماضينا الجميل وذاكرة المكان.

اليوم، وقد أوقفت الصَّحافة الورقية على مستوى العالم أجمع، ولم يعد لوجود تلك الزَّوايا من داعٍ، أصاب العطب ذاكرتنا الجمعية، فقد تلاشت الأوراق التي يثير ملمسها نشوةً لا توصف، وفي رائحتها عبقُ حياةٍ نابضةٍ بالحلم، وفي الخطوط المرسومة بعجلٍ أو بتأنٍّ على ذاك المقال أو تلك القصاصة ملامح شخصية راسمها.

كنَّا صغاراً وفي ريعان الصِّبا حينما تفتَّحت عيوننا على الصُّحف الورقية، نستهجن بدايةً تعلُّق أهلنا وذوينا بها، بل واستغربنا حينذاك وضعهم بعضاً منها في أماكن ممنوعٌ علينا الاقتراب منها لأهمية ما بها، وأدركنا لاحقاً بعد أن أصابتنا تلك القشعريرة عندما اعتادت أصابعنا على تقليب صفحاتها باحثين عن المواضيع التي تعني كلاً منا، ومن ثم أخذنا نكتب فيها ونتحسَّس أحرف أسمائنا مطبوعةً بحبرٍ ظنَّناه لا يمّحي، لكنَّه لم يمّحِ فقط بل اختفى كلياً، تحت ذرائع شتّى، فإمَّا بذريعة التَّخفيف من التَّلوُّث، أو تخفيف هدر الأموال التي تتطلَّبها الطِّباعة الورقية واستخدامها في مجالاتٍ أخرى أكثر فائدة!

وتحوَّلت القراءة ومتابعة مجريات ما يحدث في عالمنا الواسع تأتينا فقط عبر شاشةٍ تتطلَّب منا الجلوس باستعدادٍ أمامها بكلِّ وقارٍ على عكس سابقتها التي كانت ترافقنا في المسير وفي الحدائق وتحت الوسائد وأينما تنقَّلنا.

يتطوَّر العالم بشكلٍ سريعٍ، لكنَّه يلغي وجوده المادي المحسوس ليتحوَّل رويداً رويداً إلى عالمٍ افتراضيٍّ عبر شاشةٍ صغيرةٍ باتت أوسع فضاءٍ يمكن لمخيِّلتنا أن تتخيَّله، غير أنَّها غير قادرةٍ على لمسه والعيش ضمنه، فصفحاته لا يتغيَّر لونها بفعل الزَّمن والغبار والضَّوء والرُّطوبة، وليست بقادرة على أن تكون معيارنا لمعرفة عمر نضجنا المعرفي والثَّقافي والزَّماني كما كنَّا نتعامل مع الصَّفحات التي تباهينا سابقاً باكتنازنا لها دليلاً ملموساً على تطوُّرنا الحقيقي.

لست ممَّن يعارضون التَّطور والتَّقانة والتِّكنولوجيا، لكنِّي من أولئك الذين يعشقون الرَّائحة وعبق ذكرياتها، من أولئك الذين لا يزال في بيوتهم ركنٌ مخصَّصٌ للورق بشتَّى أصنافه وأشكاله، وفي قلوبهم وأرواحهم مكانٌ للمتعة الحسِّية والبصرية مع أوراقٍ كانت فيما مضى صحفاً أو مجلاتٍ وباتت اليوم لوحاتٌ يتوجَّب وضعها في أكبر متاحف العالم لما فيها من ذاكرة.

العدد 1104 - 24/4/2024