في رثاء ماضٍ لن يعود

حسين خليفة:

كل ما قلناه ونقوله، نحن الجيل الذي عاش مع الورق وأدمن رائحة الحبر ونحن نقرأ سِيَرْ الآخرين وحكايات وأخبار العالم، كتباً وصحفاً ومجلات، لن يلغي الواقع الحالي الذي نعيشه، وهو طغيان الصحافة الإلكترونية والكتب الإلكترونية على حساب الكتاب الورقي والصحافة الورقية التي تكاد تغيب تماماً بلا رجعة.

الصحف الكبرى والمموّلة من أشخاص وجهات تتحمّل الخسارة من أجل الاستمرار في النشر وتعتبر نفقات الصحيفة نافلة نسبة لمواردها الهائلة من قطاعات اقتصادية أخرى، وتبقي الصحيفة بمثابة منبر و(بريستيج) لها.

لنتذكّر صحفاً كبرى وغنية مثل (الحياة) و(النهار) و(السفير) و(المستقبل) كيف انحسرت سريعاً واضطرت إلى التوقّف والاكتفاء بالموقع الإلكتروني وصفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك وتلغرام وانستغرام وغيرها).

الأمر ينسحب وإن بدرجة أقل على كبريات الصحف الغربية والأمريكية التي ما زال بعضها يقاوم العاصفة الإلكترونية التي لن تبقي ولن تذر.

لكن. وأقولها بصفتي من جيل عايش فترة القراءة الورقية عقوداً، حيث لا موبايلات ولا إنترنت. لا شيء يعادل لذّة ملامسة الورق، المرور على بائع الصحف لشراء ما تتابعه أو ما يمكنك شراؤه، قراءته في الباص أو السرفيس، الذهاب سريعاً إلى زواياك المفضلة التي تحفظ مكانها جيداً، رائحة الحبر التي تفوح من جريدة لم يمضِ على خروجها من المطابع ساعات قليلة، أُلفة البائع الذي صار يعرفك دون أن يعرف عنك شيئاً سوى أنك قارئ متابع وشغوف.

الغزو الإلكتروني للصحافة كما لكل مناحي الحياة، هو سُنّة الحياة، لا مناص منه، لكنه لن ينسينا تلك الرائحة، جلسات الأصدقاء والصديقات التي تحفل بالنقاشات عن مقال في جريدة مفرودة أمامنا.

أذكر في معسكرات التدريب الجامعي الصيفية، وكانت مكمّلة لمادة التدريب الجامعي، وتجري في أطراف دمشق بالنسبة لطلاب جامعة دمشق. وفي معسكر الضمير الصحراوي حيث الخيم المتناثرة، والنوم على الأرض التي لا تعِدُكَ سوى بالعقارب والحشرات، كانت تردنا أعدادٌ محدودة من الصحف المحلية التي لا خيارات غيرها طبعاً كل عدّة أيام، كنّا نفرد صفحات الجريدة ونتوزعها بيننا، ثم نتبادلها حسب اهتمام كل واحد منّا رغم كونها (بايتة)، بعضهم يسارع إلى صفحة الرياضة، آخرون إلى الأخبار المحلية، كانت الصفحات الفنية والصفحة الأخيرة تأخذ جُلَّ اهتمام الشباب الذين كانوا يتناهشونها فيما بينهم لأنها تحوي أخباراً لطيفة خفيفة تلامس اهتماماتهم، بينما كانت المشاجرات تحدث على صفحة الكلمات المتقاطعة والأبراج على من يقوم بحلِّ الكلمات المتقاطعة والمتاهات والألعاب الأخرى، تاركين لنا نحن الأقلّيّة المطلقة صفحات الثقافة والأدب التي تحوي أخباراً ثقافية، ومراجعات لكتب ودوريات جديدة، ونصوصاً إبداعية أحياناً، فيما كانت الصفحة الأولى الخاصة بالأخبار السياسية، والصفحة 11 حيث تتمات الأخبار التي في الأولى هي آخر ما قد ينظر إليها أحد!!

وعلى سيرة الصفحات الأولى التي لا يقرؤها أحد، تحضرني قصة طريفة كتبها أحد الكتّاب المصريين الساخرين مُشيراً إلى البؤس الذي وصلت إليه حال الصحافة المصرية في عهد جمال عبد الناصر، وهي قصة متخيّلة طبعاً، لكنها تعبّر عن الواقع آنذاك وفي كل زمن تتحكّم فيه سلطة مستبدّة برقاب الناس، تقول الحدوتة بأنه في مصر زمن عبد الناصر كانت تُطبع صحيفةُ واحدة ويُترك مكان اسم الصحيفة فارغاً، فيحمل بائع  الصحف أختاماً بأسماء كبريات الصحف المصرية: الأهرام، الأخبار، الجمهورية… إلخ، وما إن يطلب زبون ما إحدى هذه الصحف حتى يقوم البائع بوضع ختم اسم تلك الصحيفة أعلى المانشيت ويسلّمه إياها، ففي زمن الاستبداد ينتفي الاختلاف ويُمنع، ويصبح التشابه القاتل سمة الإعلام والثقافة تحت طائلة تخوين المختلف وتكفيره ومحوه أيضاً.

كم كانت تلك الأوراق الرقيقة والحافلة بالسواد، على فقرها وضحالتها أحياناً، تمنحنا متعة القراءة، وتعرِّفنا على أصدقاء جُدُدْ بحكم الاهتمامات المشتركة.

هذا الحنين الذي نعيشه كأجيال عاركت وعاشت مع الصحف الورقية، والكتب، والمراجع، هو ظاهرة طبيعية، لكنه لا يحجب عنّا حقيقة أنّ الجديد دائماً يزيح القديم ويحلُّ محلّه، وهي سنّة التطور والحياة.

وواضح تماماً أنّ زمن الصحافة الورقية سائر إلى الزوال، وأنّ القادم إلينا في المدى المنظور هي الصحافة الإلكترونية وحتى الكتاب الإلكتروني، حتى يأتي نمط جديد أرقى من هذه، فيجعلها ذكرى للأجيال التي عاشت معها، ويزيحها جانباً ويضعها في أرشيف القراءة.

العدد 1107 - 22/5/2024