هل تصلح الصحافة مصدراً للتاريخ؟

يونس صالح:

تعد مسألة الوصول إلى مصادر المعلومات قضية أساسية في البحث العلمي، وتحتل أهمية أصالة المصادر مقدمة مهمات الباحث.

لقد كانت وثائق القوى المتنفذة والسلطات في منطقتنا في السابق هي مصدر المعلومات، فالذي يريد أن يبحث في تاريخ الدولة العثمانية عليه أن يرجع إلى وثائقها الرسمية، والذي يريد أن يبحث في تاريخ الاستعمار عليه أن يرجع إلى مصادر السلطات الاستعمارية التي كانت تحتكر المعلومات وغير ذلك من الأمثلة. ومع إقرارنا بأهمية ذلك المصدر الذي لا بديل عنه في كثير من الأحيان، إلا أن الوثائق نفسها رسمية وعبرت عن موقف السلطات ورأيها.

وتظهر المشكلة عندما يكون الشك في الوثائق الرسمية ضمن منهج الباحثين الثقات، فالسلطات الرسمية قد كتبت وثائق الأحداث والوقائع التي كانت تصب في مصلحتها، كما أن معلومات مهمة قد جرى تغييبها أو إخفاؤها أو تدميرها، وأن الذي يكشف منها لاحقاً ليس كل الذي حدث في الماضي. أما اليوم ومع ثورة المعلومات وتطور وسائل الإعلام تقنياً وانتشاراً، فإن المعلومات أصبحت ميسرة للجميع تقريباً، كما أن السلطات لا تستطيع أن تحجب أي معلومات أو تقوم بتزوير في كتابة التاريخ، فالمعلومات متوافرة للجميع.

إن المشكلة التي تواجه الباحثين عند تعاملهم مع مصادر المعلومات الصحفية تكمن في مدى دقة المعلومات وصدقيتها، ومدى التضخيم والمبالغة فيها حيث تتدخل اعتبارات سياسية وإيديولوجية واجتماعية في صياغة المعلومات ونشرها، لكن هذا الأمر يمكن معالجته من قبل الباحث الحصيف، ونظرته العلمية الموضوعية الثاقبة وأمانته العلمية للتحقق من المعلومات التي يتعامل معها، ولكن المشكلة الأخرى هي أن بعض الباحثين لدوافع شخصية أو سياسية، يعمدون إلى تزييف بعض الحقائق التاريخية.

وعندما نتطرق إلى أهمية المعلومات التي تتناولها الصحافة يمكننا الجزم بأنه لا يستطيع أي باحث تاريخي أو اجتماعي أو اقتصادي أو غيرهم أن يتجنب الرجوع للمادة المنشورة في الصحافة عند بحثه في قضية من القضايا المعاصرة.

إن معرفة طبيعة الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لبلد ما في مرحلة ما يمكن الوصول إليها عن طريق ما تنشره الصحافة ووسائل الإعلام الأخرى من معلومات في الوقت الحاضر. أما الصحافة فلا تقتصر على مجال دون آخر، فهي مرآة لما يجري في الواقع من جهة، كما أن هناك صحافة رأي وتحليل حول وقائع كثيرة ومهمة حدثت وتحدث في الواقع من جهة أخرى. وهناك الكثير من الأدلة على ذلك.

فالصحافة شاهد عيان على ما يحدث، ومن خلالها يمكن قياس توجهات الناس ونبض الشارع والتعرف على مشكلات المجتمع.

لقد اعتقد البعض أن اعتماد بعض الدراسات في جل معلوماتها على الصحافة كمصدر أساسي هو عيب، أو أنها لا ترقى إلى المستوى العلمي المطلوب، إذ لابد من الاعتماد على المصادر الأخرى الأكثر رصانة!

إن أصحاب هذا المنهج التقليدي عليهم أن يدركوا أن الصحافة تحوي وثائق ومعلومات قد لا تتوافر في غيرها من المصادر، كما أنها المصدر الفوري للحدث، ويمكن الاعتماد على معلوماتها بشرط أن تكون صحافة جادة وأمينة في نقل المعلومات.

إن الصحافة اليوم بتطورها وانتشارها تحمل كمّاً ونوعاً هائلاً من المعلومات، وتعتبر شاهد عيان على ما يحدث، إلا أن ما تنشره توجد فيه الكثير من المبالغة في بعض الأحيان لاعتبارات سياسية واجتماعية وإيديولوجية، ويعتمد الأمر على مدى وعي الباحث في تحري الدقة وفرز المعلومات بهدف الوصول إلى المعلومات الأقرب إلى الحقيقة.

لقد كان الباحث في السابق يعاني الكثير في الوصول إلى المعلومات، وبخاصة في مجال التاريخ، ذلك أن أحداثه لم يعايشها ولم يشاهدها، فهو يستقيها من الوثائق أو من كتابات أخرى، أما اليوم وبتطور وسائل الإعلام والاتصالات فلم تعد تلك معضلة، فقد يسّرت هذه الوسائل على الباحثين الكثير من الجهد.

يبدو واضحاً ونحن نعيش هذه المرحلة أن الكمّ الهائل من المعلومات يجعل الباحث غير قادر على متابعة وملاحقة كل التفاصيل المنشورة مهما كانت قدراته العقلية والبحثية. لذا عليه أن ينتقي ويختار، أو تتوافر لديه موهبة الاستشعار لالتقاط ما هو مهم، لكن علينا أن نؤكد أن التأني والدقة والتحليل الهادئ والرصين مطلوب في هذا الزمن، زمن السرعة في وتيرة الحياة التي لا تدع الإنسان يلتقط أنفاسه.

يجب البحث عن اللؤلؤ الجيد والثمين وسط الكمّ الهائل من المحار، والبحث عن الذهب الخالص وسط جبال الأتربة والصخور، وستكون الصحافة مصدراً مهماً للمعلومات يستفيد منها الباحثون في التاريخ المعاصر، وتدخل قائمة مصادرنا الأساسية.

 

العدد 1107 - 22/5/2024