حول الفكر القومي والاستعمار.. وشيء من التجربة الهندية

يونس صالح:

يقال إن غاليليو ذكر في أواخر أيامه أنه في حالة وجود عقبات بين نقطتين فإن أقصر خطّ بينهما قد يكون متعرجاً، وهي مقولة فيها الكثير من المرارة والسخرية، ولكن استعارتها بحذافيرها تبقى أمراً مقبولاً في العلوم السياسية الدولية. فهل تصلح استعارة هذه المقولة لقضايا حرجة أخرى؟ والسياسة نفسها أليست تطبيقاً لأهداف ومبادئ يفترض فيها الوضوح والمصداقية حتى لا تحتمل أي تفسير ثالث؟

إن المبادئ دائماً واضحة، ولكن تبقى النظريات شيء والتطبيق شيء آخر، وحتى الأهداف النبيلة تتخذ في مسارها قنوات أخرى مغايرة تبدو نتائجها وكأنها النقيض تماماً لتلك الأهداف والنوايا. قنوات يختلط فيها الحلم مع الوهم، والمطلق والنسبي مع الحقائق وأنصافها، ويظل عالمنا المتناقض رغم ذلك سجلاً لأهداف تتحقق وأنظمة تقام وقوانين تصاغ وقيم تكرس.

بداية يمكن الإشارة إلى صعوبة فهم إيديولوجية الفكر القومي في البلدان النامية، إذا استعملنا في تحليلاتنا الطريقة الرياضية البحتة، طريقة النقطتين الثابتتين والربط بينهما بخط مستقيم.

لقد عرف العالم نمطاً طبقياً من الثورات، كالثورة البرجوازية الفرنسية، والثورة البروليتارية في روسيا، ولكن ماذا عن ثورات العالم الثالث من أجل الاستقلال والبناء الداخلي معاً؟

كانت ثورة على جبهتين، ضد الاستعمار من جهة، وضد قوى التخلف من جهة ثانية. لقد اختلف المفكرون والفلاسفة في تفسير ظاهرة القوميات، بالرغم من مساوئها في الغرب حيث كرست معاني التنافس والصراع ومفاهيم العنصرية والشوفينية وصولاً إلى الاستعمار والإمبريالية، ثم أدت بالتالي إلى ظهور النازية والفاشية، ولكن ماذا عن الشرق؟ هل القوميات فيه مجرد تقليد أعمى لبدعة غريبة؟ أم ضرورة تاريخية وحتمية؟ يقول بعض المفكرين إن هناك نوعين من القوميات، تبدو القومية في كليهما كأنها ظاهرة فكرية، ولكنها لا تلبث أن تتخذ طابعاً سياسياً. إن النوع الأول هو ما يعرف بقوميات أوربا الغربية عموماً، والثاني بقوميات آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية. لقد كان التقدم السياسي والفكري والاقتصادي في بريطانيا وفرنسا، حافزاً لمعظم الحركات القومية في القرن التاسع عشر، أما القوميات الشرقية، التي كانت حديثة العهد بالتقدم الحضاري، فكان صراعها مزدوجاً ضد الجهل والتخلف.

إن القوميات الغربي قامت من أجل مصالح الطبقات البورجوازية الصاعدة آنذاك، والتي أرادت توحيد مجتمعاتها سعياً وراء إقامة قوة سياسية مركزية لحماية أهدافها الاقتصادية، ولكن القوميات في العالم الثالث كانت ضرورة تاريخية للتحرر الوطني، وليس من أجل استعمار الآخرين.

ورغم تعرج الحركات القومية في تطورها، وفشل معظمها، وخصوصاً بعد الاستقلال، في حل مسائل التخلف والجهل والتنمية والتقدم لأسباب كثيرة لا مجال لذكرها في هذه المقالة الموجزة، إلا أن التجربة الهندية تبقى مهمة في هذا السياق، لأنها انتهجت طريقاً جديداً للتحرر. لقد بدأت الهند رحلة البحث عن الذات في أعماق تاريخها وتراثها وصولاً إلى الركائز الإيديولوجية الخاصة بهذه القومية، ولقد تبلورت هذه النظرة الهندية عبر ثلاثة رموز فكرية وسياسية، كان الرمز الأول لهذه الإيديولوجية هو المفكر الهندي بانيك شاندرا (1838-1894) الذي يعتبر بحق الأب الروحي للفكر القومي الهندي.

لقد بدأ شاندرا يبحث عن أصل الداء لهذا الضعف الذي أصاب أمته، فبدأ بتنفيذ المزاعم الغربية عن افتقار الأمة الهندية للقوة والشجاعة، فالقضية في رأيه أبعد من ذلك، فهناك حسب اعتقاده سببان رئيسيان وراء تخلف الهند وضعفها، أولهما افتقار الهنود إلى الرغبة الجادة في التحرر، والسبب الثاني هو كثرة الانقسامات الدينية والطائفية داخل المجتمع الهندي الواحد، والسبب في خضوع الهند ليس افتقارها إلى القوة (المادية) كما يقولون، بل إلى القوة الفكرية والثقافية، فالفلسفة الدينية الهندوسية تقوم على مبدأين خطرين، يفسران السلوك الرافض للقوة.

المبدأ الأول هو مبدأ الإيمان المطلق بالحياة الأخرى، وهذا ما يفسر العزوف عن العمل الدنيوي. والمبدأ الثاني هو مبدأ الجبرية والإيمان الأعمى بالقضاء والقدر الذي يلغي أي دور إنساني ولو بسيط لمعنى المسؤولية الشخصية. إن الأحداث تصنعها الآلهة والقوى الخارقة ولا دخل للإنسان فيها.

ثم جاء غاندي، وطرح السؤال نفسه: لماذا الهند أمة مستضعفة؟ لكنه لم يُلقِ باللوم على الغزاة كما فعل سلفه شاندرا.

يقول غاندي إن الإنكليز لم يستولوا على الهند، ولكن نحن قدمناها لهم، بتمزقنا، بصراعاتنا الداخلية التي أنهكت قوانا. إن التخلف وعدم التكيف الحضاري ليسا وراء هزيمتنا، ولكنه ذلك الوهج الأوربي الساطع الذي أعمى بصيرة البعض في الهند. غاندي كان رافضاً لكل أوجه الحضارة الغربية، بكلّ صورها وجوانبها، وظل يعتبرها المصدر الرئيسي لكل ويلات العالم وشروره وآثامه. كان يرفض ما يعرف بالمدنية الحديثة، وهو في الحقيقة رفض للمجتمع البرجوازي القائم على مبدأ الملكية، وعلى مبادئ وقوانين ماندفيل وسميت الاقتصادية.

أما الرمز الثالث فكان البانديت نهرو، ولقد كان أول من ربط بين القضايا السياسية والاقتصادية للمجتمع الهندي، وفي كتابه (تاريخ الهند) يقول: إن الهند لم تركع يوماً للغزاة عبر تاريخها الطويل، بل كانت تقاوم.

كما رفض نهرو فكرة تقسيم العالم إلى شرق وغرب، واعتبر ذلك بدعة إمبريالية صرفة. وأكد أن ما يلزم الهند هو أن تتفهم روح العصر وتعايشه، عليها أن تتعلم من حضارة الغرب، ففيها الكثير، لكن أوربا ليست كل العالم. لقد كان نهرو كغيره من مفكري الشرق، يحلم بهذا التزاوج المثالي بين العلم والأخلاق، بين الأصالة والتحديث، وبين الاقتصاد والديمقراطية، وكان يرى في ذلك العلاج الشافي لكل أمراض الهند. وإذا كانت هذه الإيديولوجية الوطنية قد تحولت فيما بعد إلى إيديولوجيات حكومية على يد بعض الطبقات الحاكمة، فإن هذه المرحلة سوف تتجاوز حتماً هذا النمط من التنظيرات الإيديولوجية بحثاً عن طريق جديد آخر للحياة.

 

العدد 1105 - 01/5/2024