إنسان مستقل يتمتع بشخصية إيجابية فعّالة

ريم داوود:

يحتل موضوع الشخصية مكاناً هامّاً في علم النفس الحديث، فهو يقوم بدراسة السلوك الإنساني وتحليل هذا السلوك، ومع التقدم السريع الذي طال علم النفس في جميع فروعه ومجالاته أصبح هذا الجانب يشغل اهتمام الكثير من الباحثين، لذلك نجد عدداً غير قليل من المؤلفات والكتب التي تتناوله.

اختلفت اهتمامات الناس بدراسة الشخصية الإنسانية على مرّ العصور، وقد لاحظ الإنسان القديم وجود فروق في أنماط السلوك لدى الناس من حوله، كما لاحظ وجود ثبات نسبي لهذا السلوك أحياناً مع تغيّر فيه أحياناً أخرى، وهذه الخصائص الثلاث التي ذكرناها تعتبر أساساً في دراسة الشخصية الإنسانية.

وعند التعمّق في البحث نجد سقراط وقد توجّه بدراسته للشخصية الإنسانية نحو قدرة الإنسان على فهم سلوكه والتحكّم فيه، فوظيفة الإنسان الأساسية هي أن يعرف نفسه، لذلك نجد أنّه وجّه اهتمامه نحو الإنسان مؤكّداً على ضرورة معرفة (الذات الإنسانية).

ومع التطور التي حصل في حقل علم النفس والدراسات النفسية وظهور ما يُسمّى سيكولوجية الفروق الفردية (علم النفس الفارق) الذي مهّد لسيكولوجية الشخصية والتي قدم فيها (جالتون) خطوات كبيرة في دراسته للشخصية الإنسانية من نواحٍ عديدة كالذكاء، التذكّر، الإدراك مستخدماً أساليب إحصائية في دراسته أضافت فارقاً كبيراً إلى هذا الجانب.

* تعريف الشخصية:

إن أول حقيقة تقفز إلى أذهاننا عند محاولة فهم هذا المصطلح هي أنه ليس ثمّة شخصان لهما أنماط السلوك نفسها تماماً حتى لو كانا توءمين متطابقين، وتظهر هذه الفروق واضحة جليّة من حيث نسبة الذكاء، الإدراك، الوعي والسلوك.

كثيراً ما نسمع اللفظ التالي: إنه شخصية قوية، شخصية ضعيفة، شخصية إيجابية، بلا شخصية… وهكذا حتى أصبح هذا اللفظ متداولاً بين الناس وشبه واضح، لكن ما هو المقصود بلفظ شخصية؟

نجد في بعض التعريفات أنها تدلُّ على مجموع الصفات التي تمثّل ما يكون عليه الفرد، أو الدور الذي يقوم به في الحياة مهنياً، سياسياً، علمياً، أو اجتماعياً. وأظهر تعريف آخر أنها قد تكون الصفات التي تشير إلى المكانة والتقدير، وعليه ووفقاً لهذه التعريفات نجد أن الإنسان منذ تكوينه يتجّه لأن يكون:

١) يشبه كل الناس: فهناك صفات تنتقل بالوراثة ذلك أننا نمتلك جميعنا أجهزة عضوية متشابهة.

٢) يشبه بعض الناس: حيث نلاحظ أن هناك بعض الأشخاص لديهم سمات متشابهة، فمثلاً رجال السياسة لديهم سمات متشابهة، سيدات الأعمال يمتلكن سمات متشابهة، والرياضيون كذلك.

٣) لا يشبه أي إنسان: وهذا ما يوضح لدينا أن لكل إنسان أسلوبه في التفكير والسلوك والتعبير عن مشاعره، وأن كل شخص يستجيب بطريقة مختلفة عن غيره.

درس علماء النفس مراحل نمو الشخصية الإنسانية بعناية ودقّة فائقة موضحين أهمية هذه المراحل بدءاً بالولادة مروراً إلى الطفولة المبكرة وصولاً إلى النضج والرشد، مؤكّدين أن أيّ خلل يطول إحدى هذه المراحل يستمر أثره مرافقاً الذات الإنسانية طيلة فترات الحياة، وهذا ما يفسّره جانب التحليل النفسي للمشكلات والاضطرابات التي يمرُّ بها الإنسان في حياته اللاحقة.

ويرى فرويد أن الطفل يمرُّ عبر سلسلة من المراحل خلال السنوات الخمس الأولى، تليها فترة استقرار وثبات، وتعود القوى الدينامية للعمل مرة أخرى في مرحلة المراهقة، وعليه يؤكّد علم النفس أن السنوات الخمس الأولى في حياة أي إنسان هي بمثابة حجر الأساس لديه في بناء الشخصية.

* ماسلو والاحتياجات الفردية:

يمرُّ الإنسان حسب ماسلو بمجموعة من الاحتياجات والدوافع التي تضمن له البقاء والاستمرار، فبعد الحاجات الفيزيولوجية وحاجة الأمان، تأتي الحاجات الاجتماعية التي يتمُّ اشباعها من خلال العلاقات العاطفية، العلاقات الأسرية، واكتساب الصداقات، وهنا يؤكّد ماسلو أن أي خلل في هذه المرحلة سيؤدي بالإنسان إلى العزلة والاكتئاب ويمنعه من الانتقال إلى المرحلة التي تليها من الحاجات وهي (الحاجة إلى التقدير) التي يتمُّ إشباعها من خلال الشعور باحترام الناس، الثقة، التقدير، والمكانة الاجتماعية، كذلك الأمر في حال حصل أي خلل ولم يتمّ إشباع هذه المرحلة، فإن الإنسان لن ينتقل إلى المرحلة التالية التي يعدُّها ماسلو قمة الهرم وهي (تحقيق الذات) ويتمُّ إشباعها من خلال المهارات والقدرات الفردية التي يمتلكها الإنسان، وهنا تقفز الأسئلة والاستفسارات إلى أذهاننا: هل نتمتّع بهذا القدر من تحقيق الذات أم أننا لا نزال عالقين في المرحلة الثالثة التي تتطلّب إشباع الحاجات الاجتماعية، أو ربما في المرحلة الثانية التي تتطلّب إشباع الحاجة للأمان؟ هل انتقلنا في تلبية دوافعنا أم لانزال عالقين خاملين في مكان ما يدفعنا لتقييم وتصنيف الأخرين حسب اعتقانا لملائكة وشياطين، وحسب ما يحققون لنا من رغبات ودوافع ترضي احتياجاتنا الفردية؟

أما السؤال الأهم فهو: هل نسعى أثناء تربية أبنائنا إلى تلبية هذه الحاجات لديهم وإشباعها بالشكل الأفضل هادفين من خلال ذلك إلى بناء شخصياتهم وتطويرها ودفعهم نحو الاستقلال والتفرّد بذواتهم؟ أم اننا نقوم برعايتهم مكتفين بإشباع البند الأول من هرم الاحتياجات الذي يقتصر على الطعام والشراب والنوم؟

زبدة الكلام تتلخّص في تربية الأطفال التي تحتاج إلى الصبر والحكمة، فيسعى من خلالها الأهل إلى ضبط سلوكيات أبنائهم بالترغيب والتحبيب بعيداً عن العنف والقسوة.

إشباع حاجات الأطفال قدر الإمكان خصوصاُ الحاجات الاجتماعية والحاجة للأمان التي ترتقي بذواتهم نحو الاستقرار وتطوير الذات.

عدم إهمال استفساراتهم وتساؤلاتهم لأننا بذلك نقتل الإبداع كما نحجب هممهم واهتماماتهم.

عدم اعتبار السلوك الصادر عن الطفل تجاه الآباء على أنه خطأ فاحش والتركيز على الإيجابيات لديه.

إفراط التعامل مع الطفل بالحماية المسرفة أو التسلّط الشديد يقف عائقاً أمام تطوير شخصيته وتطوّرها في المستقبل.

بناء الإنسان من بناء الأوطان، فلنسعَ لخلق إنسان فاعل فعّال ذو شخصية إيجابية مستقلة متفرّدة مكتفٍ بذاته غير اتكالي لكي يسعى هو أيضاً إلى التطوير والبنيان.

العدد 1105 - 01/5/2024